إن السـعي نحـو تحقيـق المصـلحة القوميـة للدولـة هـو الهـدف النهـائي والمستمر لسياستها الخارجية. وهذا هو المنطلق الرئيسي لهذا المـنهج ، وبمعنى أدق إن المصلحة القومية هي محـور الارتكـاز أو يمكـن القـول بأنها القوة الرئيسة المحركة للسياسة الخارجية لأي دولة من الدول
. ولهذا المنهج مزايا من بينها أنه يجرد أهداف السياسات الخارجية للـدول من التبريرات المفتعلة أو غير الواقعية التي تحاول أن تنسبها إلـى هـذه السياسات ، كذلك إن هذه الفكرة أي ((فكرة المصالح القوميـة)) توضـح جانب الاستمرار في السياسات الخارجية للدول علـى الـرغم مـن التبـدل الذي قد يصيب الزعامات السياسية. لقـد نشـأت العلاقـات الدوليـة منـذ نشـوء الجماعـات البشـرية، ثـم قامـت القبائـل وتطـورت وعرفـت الحـرب والسـلم والتجـارة،
هذا وإن الادعاء بأنه يمكن تطبيق القواعد الأخلاقية المتداولة بين الأفراد على العلاقات بين الشعوب ادعاء غير صحيح، فمن جهة هذه القواعد تختلف من شعب لآخر، ومحاولة فرض أخلاق شعب على شعب آخر يعد أعظم مظهر للهيمنة الثقافية. ثم من جهة أخرى مهما كان أساس الأخلاق فهو نتاج لحقيقة سوسيولوجية خاصة
. وفي هذا الإطار وعلى الصعيد الخارجي، فإن كل الدول متفقة على السير على نهج القواعد الأخلاقية وعلى إدانة الحرب (إدانة الإبادة، وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية). ولا توجد دولة ملزمة بخوض حرب لا تقوم بتبريرها أمام الضمير العالمي، إلا أن هذا التبرير لا يعني أنها دولة أخلاقية، قد تحدد هذه الدولة أن من واجبها نشر السلم، لكنها لا تكون مستعدة أبدا لترجمة هذا الواجب إلى إلزام له قوة القانون.
فغالبا ما تتجاوز هذه الدولة القواعد الأخلاقية والقانونية بلجوئها إلى “المصلحة العليا للدولة” la raison d’Etat ويكون ذلك بتجاوز المبادئ الأخلاقية والحكم بما تقتضيه الظروف والضرورة التي تعد أقوى من المبادئ. فالسياسة باعتبارها فنا لوضع القوانين والإجراءات الملائمة للوصول إلى الأهداف المتوخاة تستخدم مجموعة من الوسائل الشرعية وغير الشرعية، فإلى جانب الشرعية والإقناع هناك القوة والعنف والحيلة والكذب… والاستعمال الواسع لمثل هذه الطرق اللاأخلاقية لم ترفضه الشعوب سواء القديمة أو الحديثة، وأكثر من ذلك فحتى الديمقراطيات الغربية التي تعتبر نفسها نموذج القيم والقانون تقبل بهذه الطرق وتلجأ إليها بالاعتماد على خدمات “المصالح الخاصة”Services Spéciaux التي تعمل خارج القواعد والقوانين العامة”.
إن التصرف اللاأخلاقي للدول ثابت من الثوابت، سواء في السلم أو الحرب، ذلك أن مصالح الدولة غالبا ما يتم الدفاع عنها بالطرق المرفوضة من طرف الأخلاق الفردية؛ لهذا فعند التهديد بالحرب، أو خلال الحرب، تبرز في المجتمع ظاهرة تتمثل في التركيز على المبادئ الأخلاقية وعلى التخليق المتمثل في الرجوع إلى الهوية التاريخية وإلى التقاليد.
ولكن إذا كانت الأخلاق مبدئيا غائبة عن العلاقات الدولية العادية، فإنه من الخطأ اعتبار القوى الأخلاقية الموجودة غير ذات اعتبار نسبيا، فهذه الأخيرة كانت دائما عنصرا مهما في علاقات القوة وفي العلاقات الخارجية. فتجاه سكان البلد هناك طريقة عادية أثبتت عن فعاليتها، وهي الاعتماد على الدين وهو العامل الأول. والعامل الثاني هو القانون، فكل نزاع مصلحي يستدعي غطاء قانونيا، والهدف من اللجوء إلى القانون هو من جهة لكسب ود الشعب ومن جهة أخرى للحفاظ على مصداقية كافية في الخارج الذي قد يتدخل في النزاع، أما العنصر الثالث للقوى الأخلاقية فهو التعاطف مع أقلية مضطهدة أو مع الضعيف في مواجهة القوي، أو القانون مقابل القوة، وهي تظل عبارة عن ردود فعل فردية وأخلاقية.
وقد أخذت هذه القوى أو العوامل الأخلاقية الجديدة أهمية متزايدة عن طريق وسائل الإعلام في السنوات الأخيرة إلا أنه عندما تتصاعد الأزمة وتدخل مرحلة العنف، لا تبقى لهذه القوى أي أهمية، فهي مجرد وسائل فقط يستخدمها كل طرف من أطراف العلاقات الدولية، لأن قرارات السياسة الخارجية لا تقوم على الاعتبارات الأخلاقية.
ومـن هنـا يمكننا القول بان تاريخ العلاقات السياسـية الدوليـة تـاريخ قـديم منـذ وجود الإنسان . إن الكثيرين من العلماء والباحثين في هذا المجال وخاصة الغربيين مـنهم يـرون أن العلاقـات السياسـية الدوليـة لـم تنشـا إلا منـذ مـؤتمر وسـتفاليا 1648 عنـدما ظهـرت الـدول القوميـة. ونحـن بهـذا الصـدد لا نشاطرهم هذا الرأي وإلا كيف يمكننـا أن نفسـر المعاهـدة التـي وقعهـا رمسيس الثاني مع ملك الحبشيين في آسـيا الصـغرى سـنة 1278 ق.م والتي نصت على عدة مبادئ
((قيـام سـلام وامـن بـين ال بلـدين وتحـالف بـين المملكتـين وتتعهـد المملكتـان بـان لا تشـن إحـداهما غـارات علـى الأخرى )) (1) . كما أن الرأي ينم عن تحيز واضح للغـرب مفـاده أن العلاقـات الدوليـة بدأت ونشأت في الغـرب دون الشـرق.
ولكننـا نـرى أن العلاقـات الدوليـة ترجع إلـى مـا قبـل مـؤتمر وسـتفاليا بأجيـال كثيـرة ، والكشـوف الأثريـة توضح أنه نشأت علاقات دولية بين بلاد ما بين النهرين منذ نحو 3000 سنة ق . م . لقد ذكرنا أن العلاقـات الدوليـة قديمـة قـدم الإنسـانية ،غير أن هـذه العلاقات كانت قائمة في الغالب على الحروب والفتح والتوسع ولا يمكـن ٣٨ بأية حال مقارنتها بالعلاقـات الدوليـة المسـتقرة الدائمـة والقائمـة بـين الدول فـي العصـور الحديثـة لان الجماعـ ة الدوليـة أو الوحـدة السياسـية بمعناها المعروف حاليا لم تكن قد ظهرت بعد . وإذا تصفحنا التاريخ
فإننا سنجد الكثير من الحـروب المتواصـلة بـين الممالـــك والإمبراطوريـــات فـــي العـــالم القـــديم كقـــدماء المصـــريين والأشوريين والبابليين والفينيقيين والفرس والإغريق .. الخ . ففي العصور القديمة وبالذات في عهد الفراعنة، كانت مصر الفرعونية ذات علاقات بالدول المجاورة، كما اتبعـت سياسـية خارجيـة قائمـة علـى مبدأ توازن القوى . واستطاعت أن تبرم معاهدة مع الحبشيين التـي تضـمنت مبـدأ السـلام الـدائم ومبـدأ التحالف الدفاعي بين الدولتين ضد أي عدوان خارجي . وان من أبشع أمثلة الحروب في العالم القـديم صـراع رومـا وقرطاجـة من اجـل السـيادة علـى حـوض البحـر الأبـيض المتوسـط . أمـا بالنسـبة للأشوريين
فقد كانوا مثالا للوحشية والقسوة في حـروبهم، وقـد أنكـروا أية علاقات ودية مع أي امة أخرى، وبالتـالي يمكـن القـول إن سياسـتهم الخارجية كانت قائمـة علـى فكـرة الاسـتعلاء والاسـتبداد . كـذلك الحـال بالنسبة للرومانيين فالعلاقات بينهم وبـين الأجانـب لـم تكـن مبنيـة إلا على أساس الحروب والعداء الدائم وكانوا ينظـرون إلـى الشـعوب نظـرة استعلاء وعداء . أما عن العلاقات بـين المـدن اليونانيـة فإنهـا اتصـفت بنـوع مـن الثبـات والنظام وخاصة في أوقات السلم حيث كانت قائمة على التعاهد وتبادل البعثات الدبلوماسية المؤقتة، وكانت كلما تحدث الخلافـات فيمـا بيـنهم ٣٩ يلجــأون إلــى التحكــيم كمــا جــاء فــي ((معاهــدة الصــلح بــين إســبارطة ورجوس المبرمة في 470 ق . م ))(2 ). أمـا عـن طبيعـة العلاقـات الرومانيـة فكانـت الإمبراطوريـة تفضـل استخدام القوة في علاقاتها بدلا عن الدبلوماسية، ومع هذا فلقد دخلـت الإمبراطورية الرومانية في معاهدات مع الدول التي تغلبت عليها
. أما علاقات روما بالدول المستقلة في حـوض البحـر المتوسـط، فكانـت اقــرب إلــى العلاقــات بــين المــدن اليونانيــة حيــث كــانوا ينظــرون إلــى المعاهدات ((كنظرتهم إلى عقود مبرمة في ظـل القـانون الخـاص ، بـل قــد وضــعوا صــيغا لتلــك المعاهــدات مثــل معاهــدة الصــلح ، والهدنــة، ومعاهدات وقف القتال )) (1) . ولما تم لروما فيما بعد السـيطرة علـى الشـعوب والممالـك التـي غزتهـا ,أسست إمبراطورية
وأقامت لها نظاما وذلـك لحفـظ النظـام والاسـتقرار والأمن في حدودها وفق النظم العامة لإدارة شؤون الحكم مع الاعتـراف بالقوانين المحلية للشعوب المحكومة لتنظيم أمور الرعيـة والهـدف مـن ذلك يمكن في رغبة روما في إقامة صرح الإمبراطورية وتدعيم أركانهـا وسيادة القانون وإخلاد الناس للسكينة لصالح الدولة الحاكمة .