تعيش معظم الدول العربية مرحلة مفصلية من تاريخها، ليس على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي فحسب، وإنما القانوني أيضاً. تتميز هذه الحقبة بالتغيّر في عاملين أساسيين في هذه المجتمعات العربية، عن غيرها من العديد من دول العالم:
فإضافةً إلى الثورة الرقمية والعولمة الاقتصادية وانعكاساتهما الاجتماعية، تشهد الدول العربية مرحلة تحول سياسي جذري، بما في ذلك انهياراً تاماً على مستوى الدولة ومؤسساتها في دول مثل لبنان وتونس والعراق والسودان واليمن وغيرها. وذلك، ناهيك عن الأزمات الأمنية في بعض الدول العربية والاقتصادية والمالية في بعضها الآخر، وطبيعة الحكم وعلاقته بالمجتمع في بعضها الثالث.
إلا أن ما يجمعها كلها، ويشكل تحدياً أساسياً في هذه المرحلة الانتقالية من تاريخها، يكمن في دور القانون وقدرته على حماية المجتمع. هذا التحدي يراكم على أزماتها أو دقة مرحلتها محوراً لا بد أن يُطرَح على المستوى الفكري والعلمي والمجتمعي من بابه الواسع، إذ عندما نتناول الأنظمة السياسية لا يمكننا تغييب أدوات الحكم الأساسية المتمثلة في القواعد القانونية.
إن مسؤولية تطبيق وإنفاذ سيادة القانون بمساواة وعدالة ونزاهة تقع على عاتق الدولة. ولكن في الوقت نفسه، يتحمل كل مواطن مسؤولية ممارسة وترسيخ سيادة القانون في حياته اليومية. أقول هذا لأنني أعرف من التجربة أن كل فرد يقبل ويتبنى مبدأ سيادة القانون من الناحية النظرية، ولكن البعض يظنون أنهم الاستثناء الوحيد الذي يُعفى من تطبيق هذا المبدأ على أرض الواقع. بغض النظر عن المكانة أو الرتبة أو العائلة، فإن مبدأ سيادة القانون لا يمكن أن يمارس بانتقائية.
وفي ضوء ذلك، من المهم أن تتولى مؤسسات الدولة الرسمية مهامها متى ما واجهت تحديات داخلية وتهديدات أمنية خارجية بشكل فوري، وعملية المواجهة ينظمها القانون بناءً على ما قرره الدستور في شأن مسؤوليات حفظ الأمن وسيادة القانون دائماً.
كذلك عملية حفظ الأمن وسيادة القانون قد تشوبها أخطاء أو تجاوزات أو سوء استخدام الصلاحيات، وهي حالات موجودة في مختلف المجتمعات، سواءً تلك التي شهدت تحولاً ديمقراطياً منذ قرون كما هو حال الديمقراطيات الأوروبية، أو تلك التي مازالت تشهد تحولاً ديمقراطياً مثل مملكة البحرين. وهي بلاشك أخطاء واردة، ولكن الأخطاء ينبغي الاعتراف بها، وينبغي تقويمها سريعاً، وإيجاد الحلول المناسبة لضمان تفاديها مستقبلاً، بالإضافة إلى محاسبة من تورط فيها، فهذا ما ينص عليه القانون الذي ينبغي تطبيقه على الجميع.
بالمقابل ليس مقبولاً إزاء حرص الدولة ومؤسساتها على تطبيق القانون من أجل حفظ الأمن والاستقرار القيام بتجاوزات قانونية، والعبث بالأمن من خلال أعمال الإرهاب والعنف السياسي باسم المطالبات الحقوقية، فهناك آليات تنظم حق التعبير السياسي، وهناك أيضاً آليات دستورية قادرة على استيعاب مطالب المجتمع الذي يتسم بتنوع وتعدد المكونات، ومن المنظور القانوني، فإن الحقوق هي صلاحيات يتمتع بها الشخص ويمكن فرضها على أشخاص آخرين. والدولة مطالبة بالتأكد من احترام حقوق الأفراد، كما يعترف القانون، وحمايتها، وإعمالها، وفرضها عند الضرورة. وفي الوقت نفسه، فإن الدولة ملزمة بالامتثال لسلسلة من الالتزامات لضمان حقوق الإنسان وحمايتها وتعزيزها. بطبيعة الحال، لا يترجم القانون دوماً إلى ممارسة عملية. وهناك حالات لا تحترم فيها الحقوق الفردية أو تنتهك حتى عمدا. وفي مثل هذه الحالات، يتم تنشيط مسؤولية الدولة، وتمشياً مع مبدأ سيادة القانون، يجوز رفع الإجراءات القانونية ضد الدولة تتطلب الالتزامات الإيجابية من السلطات الوطنية أن تعمل؛ أي اتخاذ التدابير اللازمة لحماية حق أو، على وجه الدقة، اتخاذ تدابير معقولة ومناسبة لحماية حقوق الفرد. وقد تكون هذه التدابير قضائية (على سبيل المثال، حيث يتوقع من الدولة أن تفرض عقوبات على الموظفين العموميين الذين يسيئون استخدام سلطتهم في معاملة المهاجرين المهربين).
وقد تكون ذات طبيعة أكثر عملية. ومن الأمثلة على ذلك التدابير المتخذة في أماكن الاحتجاز لمنع المهاجرين المهربين من الانتحار أو إلحاق الأذى بأنفسهم أو بالآخرين. باختصار، نستطيع أن نلخص هنا الالتزامات الإيجابية التي يتعين عليها في عموم الأمر أن تتعهد “بالقيام بشيء” لضمان احترام وحماية حقوق الإنسان.
تشير الالتزامات السلبية إلى واجب عدم التحرك؛ أي الامتناع عن اتخاذ أي إجراء من شأنه أن يعرقل حقوق الإنسان. فعلى سبيل المثال، عندما لا تعيد المهاجرين المهربين إلى البلدان التي يواجهون فيها مخاطر الاضطهاد، تلتزم الدولة بالالتزام السلبي المقابل. ومن المهم أن الوفاء بالتزام سلبي قد يتطلب عملا إيجابيا. وقد يتضمن هذا تبني القوانين، والتنظيمات، وإجراءات التشغيل القياسية التي تحظر سياسات الدفع الخلفية التي تنتهجها سفن تهريب المهاجرين القريبة من الحدود البحرية للدولة.
لا شك في أن سلطة الدولة والقاعدة الوضعية لم تفقد دورها بالمطلق، بل ضاق هامش فاعليتها نظراً إلى عناصر متعددة، أبرزها:
ضعف النظام العام المرتبط أصلاً بالعقد الاجتماعي وهي القواعد التي تربط بين فئات المجتمع وأفراده بحيث تشكل المساحة المشتركة الآمنة التي يرتضي ضمنها كل طرف أن يتنازل عن جزء من نطاق حقّه مقابل تنازل الآخرين عن أجزاء مقابلة، بغية تحقيق الانتظام العام من استقرار وأمن.
ضعف قدرة القوانين على التدخل في المصالح الاقتصادية بحكم الأمر الواقع.
المسار الطويل لصدور القواعد الوضعية في وقت تتطلب الظروف ومرونتها وسرعة إيقاعها تدخلات سريعة عملية.
ظاهرة التضخم التشريعي التي تتطلب تدخلاً متكرراً وتعديلات تشريعية لا يتم تطبيقها بالضرورة، بما أفقد القوانين حيّزاً من هيبتها.
ضعف تمثيل البرلمانات سواء بسبب عدم الإقدام على الانتخابات أو عدم الثقة بدور هذه المجالس.
تطورات اجتماعية وتعدد الفئات التي تبحث عن مصالحها بأشكال مختلفة، والتي لا تنتمي بالضرورة إلى التطور التاريخي للدولة الذي أدى إلى نشوء العقد الاجتماعي، الضعيف أصلاً.
تطرّف الحقوق الاقتصادية الخاصة وتحررها من الضوابط وقدرتها على التأثير رغم صدور القوانين.
وجود قواعد أكثر فاعلية من القواعد القانونية في المجتمعات العربية، ولا يمكن بحكم الواقع تجاهلها، وهي قواعد مرنة، سواء ذات الطبيعة الاقتصادية والاتفاقية، أو الاجتماعية الفئوية كالدينية والمرتبطة بثقافات الجماعات.
في هذه المرحلة، وأمام كل هذه التحديات، لا بد من التركيز على أربع توصيات أساسية:
السعي إلى تكريس الضمانات الاجتماعية كجزء من الحقوق الدستورية بشكل صريح، لأن المفاهيم السابقة لم تعد متناغمة مع تحولات العصر، وكي تتحول إلى قواعد ملزمة للأعمال والقرارات الفاعلة في ظل سيادة الدستور.
تكريس نظام ضريبي عادل يضمن المسؤولية الاجتماعية للشركات وعدم تركها مرتبطة برغبة أصحاب المصالح وحرياتهم الفردية وأخلاقياتهم، خاصة وأن الضرائب تبقى من الصلاحيات التي ما زالت مرتبطة بالدولة.
تطوير واعتماد إطار قانوني لازم يضمن احترام القطاع الخاص على أشكاله بقواعد المسؤولية الاجتماعية (corporate social responsibility CSR).
ضرورة وعي الناس على بأهمية دور القانون في المجتمع وعلاقته بضمان حقوقهم وثقافتهم، وكذلك وعي العاملين في قطاع القانون على الثقافة القانونية المستجدة والتحولات المرتبطة بطبيعة القاعدة القانونية الفاعلة، والسعي مع الجسم القضائي لتفعيل المرونة في مقاربة العدالة المرجوة نظراً لتبدّل أدوار الفاعلين المؤثرين بحياة المواطن، والاختلاط الحاصل بين الأنظمة القانونية والاقتراب من طبيعة القانون العرفي. كل ذلك من شأنه تعزيز ثقافة القانون بين فئات المجتمع المختلفة، بدلاً من ثقافة الحقوق وحدها، وبالتالي إرساء مبدأ حكم القانون بما يتضمنه من ممارسات تطبيقية من شأنها تحقيق الرفاه والعدالة الاجتماعيين.