اللقطة المرافقة لهذا المقال هي – فقط – النصف الأول من الصورة.
مدرج الصف الأول بإحدى كليات القمة وقد خلا تماما من طلابه.
أما النصف الثاني من الصورة فلم تطاوعني نفسي على نشره.
أستاذ المادة -الذي لم أستأذنه في نشر الصورة- يجلس على الكرسي المخصص له بقاعة المحاضرات في انتظار طلابه الذين لم يحضر منهم أحد حتى موعد المحاضرة.
أستاذ ينتظر تلاميذه .. ياه .. ما أصعب هذه الكلمات وما أقساها على شخص كان – وزملاؤه – يقفون في الوضع انتباه حتى يؤدوا التحية لأي أستاذ من أساتذتهم يقترب من سور المدرسة.
إذا أردتم دليلا فإنني أستأذنكم أن نعود إلى نهاية الستينات.
نحن الآن نجلس حول مدرسة العرب الابتدائية في انتظار بدء اليوم الدراسي.
فجأة .. نلمح الأستاذ محمد الظيظي مدرس الحساب أو الأستاذ رمضان محروس مدرس اللغة العربية أو الأستاذ فوزي فايد مدرس التاريخ يقترب من المدرسة.
يهب واقفا من يلمح منا الأستاذ أولا، ثم يتبعه باقي الطلاب وقوفا يؤدون له التحية ولا تسأل عن حجم سعادتنا إذا تفضل أحد هؤلاء الأساتذة ورد لنا التحية.
أستاذ ينتظر طلابه .. ما أصعب هذه الجملة على طالب كان يفكر أكثر من مرة قبل أن يمر من أمام غرفة ناظر المدرسة الإعدادية.
في مدرسة شنشور الإعدادية (الشهيد محمودعبدالرحمن هنطش بعد حرب أكتوبر) قدم إلينا من القاهرة ناظركان رائعا ومبهرا ومثلا أعلى لنا في هذا الوقت البعيد.
كان الرجل -الذي أصبح حديث القرية – يأتي من القاهرة في سيارة (فيات 132) ولكن هذه السيارة الزرقاء كانت في أعيننا – في ذلك الوقت الذي تخلو فيه القرية من السيارات – أكثر فخامة من المرسيدس أو الرولزرويس.
كان الأستاذ محمود السمري رجلا منضبطا وملتزما ومعتدا بنفسه ولا يخشى في تطبيق أنظمة المدرسة ولوائحها لومة لائم.
دعك من الطلاب، فقد كان المدرسون – يهابونه ويعملون لدقته وانضباطيته وعدم سماحه بأي إخلال أو اجتراء على أنظمة المدرسة، ألف حساب.
كان الأستاذ السمري إذا رأى مخالفة في حوش المدرسة يشير بسبابة يده اليمنى كي يقترب الطالب المخالف منه ثم يحذره من مغبة تكرار هذه المخالفة أو أي مخالفة غيرها مرة أخرى.
وكان من الصعب على الطالب بعد ما شاهده من حسم وحزم ووعي بأبعاد وظيفة الناظر ودوره أن يكرر أي مخالفة مرة أخرى.
في المدرسة الإعدادية أيضا رزقنا الله بجيل جديد من معلمي الرياضيات حديثي التخرج فكان الفارق بيننا وبينهم لايزيد عن 7 أو 8 سنوات.
إلى الآن لا أزال أذكر بكل الخير الأساتذة عبدالحميد الشامي وعبد المجيد محمد ومحمود إبراهيم وكلهم من المتميزين في تدريس الرياضيات وأتذكر أن الدنيا لم تكن تسعنا من الفرحة عندما كانوا يتبادلون معنا بعض التعليقات الضاحكه.
في المرحلة الثانوية أذكر كم كنا نهاب الأستاذ أحمد عبدالمحسن عوض – أفضل من رأيت من اساتذة اللعة العربية – وأذكر كيف كنا نستعد لحصته بسبب قوته في اللغة العربية وغيرته الشديدة على قواعدها أولا ولقوة شخصيته وتأثيره الطاغي على طلابه ثانيا.
أما في الجامعة ورغم أنني كنت أنتمي إلى كلية صناعة خريجيها الكلام – فقد كنت أتردد كثيرا قبل أن أتكلم في حضرة أي أستاذ ولا أهم بالكلام ألا إذا كان ما سأقوله سيضيف بالفعل إلى موضوع المحاضرة ويثري بالفعل المناقشات التي تدور حولها.
ما الذي تغير حتى ينتظر الأستاذ تلاميذه؟ وكيف اجترأ الطلاب على الأساتذة وكيف صغرت مكانة الأساتذة في عيون الطلاب ؟
ربما لأن الأستاذ لم يعد – كما كان على أيامنا – المصدر الوحيد للمعرفة بعد أن نافسته كل وسائل التواصل الاجتماعي التي صنعت حالة التدفق المعرفي التي يشهدها العالم اليوم.
ربما لأن الأساتذة في الوقت الحالي أقل ثقافة وتأهيلا من أساتذة الأجيال القديمة ؟
ربما لأن قيمة العلم قد تضاءلت بعد أن تضاءلت قيمة العلم وتصاعدت بدلا منها الرغبات المحمومة في الثراء والسعى إلى تحقيق أكبر ربح مادي بأقل جهد ممكن بعد أن أصبح للثراء المادي وليس للعلم دوره المحوري في تحديد قدر الإنسان والإشارة إلى منزلته ومكانته.
ربما لأن المثال تحول – عند كثير من الناس – من القيمة الى المال وتبدل النموذج من العلم إلى الكسب واتجه المثل الأعلى من الفكر والأدب والثقافة إلى المطربين والممثلين ولاعبي الكرة وكل من يمتلك المال حتى لو كان مصدره مجهولا و غامضا وغير معلوم.
ربما كان لانتشار الدروس الخصوصية دور في تأخر الطلاب عن الأستاذ فلم يعد الطالب متحمسا لحضور المحاضرة لأن معلما آخر سيتولى شرح المحاضرة للطالب ولمجموعة صغيرة من الطلاب في درس خصوصي.