يُعد اكتساب المتعلم الخبرات التعليمية المرتبطة بمقرر بعينه في ضوء معيارية الإتقان صورة تترجم ما يقوم به من استذكار، بما يمكنه من أن يوظف البُنى المعرفية التي شكلها من هذه الخبرات؛ فيتأكد امتلاكه لها، وقد يأخذه هذا إلى مسارات متقدمة كتطبيق ما لديه من معارف في أداء أو ممارسة مهارات يتم ملاحظتها ورصدها، كما نلاحظه في مقدرته على تطبيق خبراته المكتسبة في مواقف وقضايا تعليمية جديدة تحمل إشكاليات أو تساؤلات تحتاج إلى إجابات محددة تتسم بالجدة والأصالة في مكونها.
وثمت محدد فيزيقي رئيس يؤهل المتعلم لأن يستذكر خبراته التعليمية في صورة صحيحة؛ إذ ينبغي أن يكون مكان جلوسه مريحًا لا تشوبه الضوضاء أو الإضاءة الخافتة أو المثيرة، ويجب أن تكون مستويات التهوية تسمح بالتنفس الحر؛ فلا تتوافر أدخنة أو روائح نفاذة قد تؤثر على التركيز لديه، ولا يعني هذا أن نغالي في إعداد أماكن المذاكرة التي نخصصها لأبنائنا؛ فالفكرة مركزة حيال مناخ طبيعي مواتي يخلو من المشتتات أو المنغصات أو مسببات فقد التركيز والانتباه.
وفي هذا الإطار يصبح هناك أكثر من مكان في المنزل يستطيع المتعلم أن يستذكر فيه دروسه طالما كان مريحًا نفسيًا وبدنيًا وبعيدًا عن عوامل إعاقة اكتساب خبرات التعلم، ومن ثم ننتقل لعامل آخر لا يقل أهمية عما سبق؛ حيث ماهية الوقت المناسب لاستذكار الدروس وتحصيل ما تتضمنه من خبرات متعلمة، وهذا يتباين من شخص لآخر؛ لكن تحكمه قاعدة رئيسة، وهي راحة الذهن وصفائه؛ فلا تحصيل دون تركيز ذهني، والذي نحكم عليه من مؤشر لا جدال حوله؛ فحينما نفهم ونعي ما نقرأ فنحن في حالة ملائمة للاستذكار، وعندما لا نستطيع أن نعي ونتفهم ما نقرئه؛ نتيجة لإجهاد ذهني أو بدني؛ فحينئذ يجب أن نأخذ قسطًا من الراحة التي من خلالها نستجمع قوانا ونستعيد نشاطنا المعين على التحصيل في صورته السليمة.
وعلى أية حال لا نخالف رأي من يتحدث على أفضل وقت للاستذكار والذي حدده بعد الاستيقاظ؛ لكن نرى أنه عندما لا يحول حائل عن الاستذكار طالما توافر التركيز الذي يعد مقومًا رئيسًا في نجاح غاية التحصيل فلا بأس، ولا ننكر على من يقول بضرورة تنظيم مواعيد لليوم؛ حيث ميقات النوم وتناول وجبات الطعام المعتادة، ومن ثم معلومية ساعات المذاكرة، ناهيك عن مقتطفات الراحة التي تتخلل عملية الاستذكار في اليوم بأكمله؛ لكن ما نوجه النظر إليه أن الروتين قد يؤدي إلى الملل، ومن ثم إصابة المتعلم بإنهاك ونصب وتغيرات نفسية قد يكون منها صعوبة التكيف، أو تسلل الإحباط لديه، عندئذ يتوجب كسر الروتين ليخرج المتعلم من الحلقة الدائرية ويستعيد نفسه وطاقته ونشاطه الذي يعينه على استكمال مسيرة الاستذكار.
وهناك من يرى أن التحصيل المعرفي في فترات الصباح أبقى أثرًا، وهذا أمر جيد إذا ما اعتاد عليه المتعلم؛ لكن لا نغفل ضرورة قسط النوم الذي يسبق هذا الوقت المليء بالبركة والنشاط في طلب ما نحتاجه من أمورنا العلمية والحياتية على السواء، وفي المقابل نؤكد بأن حالة الاستعداد التام المتمثلة في الرغبة المشفوعة بالنشاط هي شريطة رئيسة للنجاح في تحقيق أهداف الاستذكار التي ننشدها من المتعلم؛ فرغم أن توافر جدول يعين على تحقيق غايات البرنامج اليومي يكون في الحقيقة مثمرًا وذا جدوى؛ إلا أنه يتوقف على مقدرة المتعلم على الاستمرارية بمزاج راق وهادئ.
ونؤكد بأن قلق المتعلم يعد حجر عثرة ينبغي التغلب عليه بمزيد من تقديم الدعم المعنوي له وتأكيد ثقته بنفسه، وأنه قادر على إنجاز المهمة، كما أن الأخذ بالأسباب الكامنة في الاستعداد وبذل الجهد اللازم من مقومات النجاح التي ينبغي أن يتمسك بها، وهذا الأمر يدعونا أن نتجنب وبشكل قاطع عقد مقارنات بين متعلم وزميل له؛ فلكل فرد قدراته الخاصة من حيث درجة الذكاء وتفوقه في مستويات منها دون أخرى، ناهيك عن قدرات التحمل والتكيف والتوافق مع ما يتعرض له من خبرات تعليمية؛ فما هو سهل على متعلم صعب على آخر؛ فبدون شك هناك فروق فردية بين الجميع دون استثناء؛ فتلك قضية لا جدال فيها.
ولندرك جيدًا أن العقل السليم في الجسم السليم؛ فقد أصبح اهتمامنا بنمط التغذية الصحية لأولادنا أمرًا غاية في الأهمية؛ فعندما يصاب المتعلم بأمراض سوء التغذية يصعب عليه أن يبذل مجهودًا زائدًا في تحصيل خبرات التعلم؛ فتركيزه دون شك ضعيف ومقدرته على العطاء دون المستوى المطلوب، وهذا بالطبع يجعلنا نبدى اهتمامًا بصورة الرعاية الصحية التي نقدمها لهم؛ حيث الاطمئنان على مستوى الصحة العامة ومعالجة ما قد يطرأ من تغيرات عليها، خاصة فيما يرتبط بالحواس من سمع وبصر وتحدث ولمس وشم؛ فتلك مقومات الإدخال وعليها يقع مضمار المعالجة الدماغية، وننوه بأنه لا ينبغي السماح في الوصول لحد الإسراف تجاه قلة النوم والإرهاق غير العادي في ساعات المذاكرة؛ فالأثار دون شك غير محمودة.
وحري بالذكر أن هناك فنيات تعين أبناءنا على الاستذكار في صورته الصحيحة منها الاستعانة بتنوعات المصادر للمادة الواحدة؛ حيث تأكيد صورة الخبرة في الأذهان وتعميقها قدر المستطاع؛ فأسلوب عرض المعلومات والمعارف قد يتباين من مصدر لأخر، كما أن مد فترة المراجعة من الأمور التي تعين المتعلم على تثبيت معلوماته وخبراته، وتحد من مسببات النسيان، وتكشف له مواطن الصعوبة فيحاول التغلب عليها بالطرائق التي قد تعتمد على التكرار والاستعانة بخبرات الأخرين.
وهناك أمرٌ ضروريٌ ينبغي التنبيه عليه، يتمثل في أهمية توفير مناخ داعم للاستذكار؛ حيث إن الضغط النفسي على المتعلم من قبل الأسرة يسبب مشكلات يأتي في مقدمتها التوتر والعصبية المفرطة التي قد يعاني منها؛ فحينما يطلب منه أن يحصد مركزًا متقدمًا بين زملائه أو أن يحصل على نسبة بعينها في مجموع درجاته كي يضمن كلية متميزة؛ فإن هذا يشكل تحديًا يواجه ويجعله لا يشعر بالارتياح مهما بذل من جهد متواصل ليحصل دروسه ويكتسب خبرات التعلم المستهدفة.
كما لا يتوجب علينا أن نحث أولادنا على الحفظ والاستظهار قبل المرور بحالة من الفهم العميق الذي يبني على الاستنتاج والتفسير والاستنباط، بما يجعل التعلم وخبراته ذات معني لديه، ويستشعر أن ما يجنيه من مهارات بتنوعاتها المختلفة مفيدة في حد ذاتها سواءً ارتبطت بالجانب الأكاديمي أو الحياتي؛ فتتكون لديه رغبة في مزيد من التعلم وهذا ما نسميه حب الاستطلاع العلمي.
حفظ الله وطننا الغالي وقيادته السياسية الرشيدة أبدَ الدهر.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر