الحكم على أن الإنسان أرقى مخلوق على وجه الأرض قائم على مسلمة رئيسة لا جدال حولها مفادها، مقدرته على إعمال العقل في إدارة شئون حياته بصورة كاملة أدت إلى أن يشكل حضارته ونهضته، وأن يستثمر ما على وجه الأرض لصالحه في شتى مجالات الحياة، من خلال تفكير يوصف بأنه منتجًا في مكونه ومكنونه، والذي يشير إلى العملية الذهنية المعرفية الوجدانية الراقية، والتي تقوم على بعض العمليات النفسية، كالإدراك والإحساس وتخليق الأفكار والتخيل والتصوّر، وترتكز وتعتمد على العمليات العقلية كالتذكر والتركيز والتنظيم والتصنيف والتقييم والتمييز والمقارنة والاستدلال والتحليل والاستنباط والاستنتاج والابتكار.
وهذا الوصف الدقيق لماهية التفكير يؤكد لدينا أن التفكير يعد سلوكاً ذهنياً يتم بواسطته معالجة المعلومات بغية حل المشكلات واتخاذ القرارات، ومن ثم أضحت مسئولية مؤسساتنا التعليمية غاية في الدقة؛ حيث يتطلب أن نُعد من الأنشطة التعليمية في كافة التخصصات العلمية ما يسهم في تنمية هذا المكون المهم لدى الفرد بصورة مقصودة وفق استراتيجيات احترافية تمكنه من أن يمارس أساليبه المختلفة بشكل تلقائي.
وقد صار تقدم الأمم مرهون بمن يمتلكون التفكير وأساليبه؛ فيقدمون كل ما هو جديد وما يُحدث نقلات نوعية في مجالات الحياة العلمية والعملية والمعيشية؛ فنحن في أشد الاحتياج بكل ما هو نافع في إطار ما نستطيع أن نواجه به تحديات الطبيعة وما يمكننا من تحقيق حياة الرفاهية ويحقق مفردات الصحة العامة، والتي تتضمن الصحة النفسية والعقلية والبدنية ويتسبب في إفشاء حالة الرضا وسعى الإنسان ليستكمل مسيرة النهضة والإعمار على وجه البسيطة.
وفي ضوء ما يمتلكه الفرد من بنية معرفية تشكلت عبر مروره بخبرات تعليمية عديدة ومتعددة أثرت بصورة مباشرة على نمط سلوكه وتصرفاته الاعتيادية عند مواجهة قضايا أو مشكلات بمختلف تنوعاتها وتعقيداتها، وحيال ذلك يصبح لدينا أساليبًا للتفكير تساعدنا في معالجة المعلومات؛ لكن قد يطغى بعضها على الآخر، ومن ثم تصبح هناك فروقًا في درجة تأثيرها بما قد ينعكس على أدائه أو منتجه النهائي.
وبناء على ذلك من يمتلك أسلوب التفكير التركيبي يستطيع أن يصل لفكرة تتسم بالجدة والحداثة من خلال بعض الأفكار التي تكون مترابطة، أو غير مترابطة، أو بعض المعلومات المتشابهة، أو المختلفة؛ حيث تتضح مقدرة الفرد على أن يُوجد علاقات ارتباطية منطقية؛ ومن ثم يعمل على إعادة الترتيب والتنسيق بما يُظهر جمال المخرج الذي تم تركيبه.
وهذا النمط أو الأسلوب من التفكير يجب أن نتيح له البيئة التعليمية التي تعمل على صقله لدى المتعلم بصورة وظيفية؛ حيث يجب ترك مساحة للتفكير العميق بعد المرور بحالة من التأمل المبني على أطروحات أو معلومات تستوجب التدبر من قبل المتعلم؛ فيستطيع أن يتفاعل معها ويُصدر استجابات قد تكون منطقية بالنسبة لنا أو غير منطقية، وبالأحرى يتحتم علينا ألا نستوقفه، بل نحفزه ليستكمل مسار التفكير لديه ونقدم له ما يعينه على تحقيق النتيجة التي يرجوها أو ينشدها.
وربما نلاحظ متعلمًا يمتلكه الشغف حيال أن يجري تجارب أو يهتم بالتطبيق أو يذهب وراء البرهان أو يرغب في التوصل لنتيجة نصفها بالإجرائية؛ عندئذ يتأكد لدينا امتلاكه لأسلوب التفكير العملي، وما علينا إلا سبره؛ كي يتمكن من أن يخطط بصورة صحيحة وينفذ بشكل سليم ليصل للهدف أو الغاية التي يتطلع إليها، ويجب أن نقدر أهمية حب الاستطلاع المبني على فلسفة الواقع والخبرة في الميدان التربوي، حتى نخرج من يمتلك الابتكار، ومهاراته، والابداع، وفنونه.
واهتمامنا بتنمية التفكير العملي كأسلوب له ثمرات عديدة يستوجب جاهزية معاملنا التعليمية وصياغة مهام الأنشطة التي تتطلب توافر المواد والأدوات ومقومات نجاح التطبيقات العملية داخل البيئة التعليمية التي يجب أن تحاط بالأمان وفق اشتراطات متعارف عليها من أهل التخصص، وفي هذا الخضم يستطيع الفرد أن يربط بين النظرية والتطبيق، وينمو لديه حب انتهاج الأسلوب العلمي بغية الوصول لنتائج عملية ذات جدوى سواءً ارتبطت ببيئته التعليمية، أو العملية، أو الحياتية.
وعندما نرى من يغلب عليه توظيف الجانب النظري في أطر ممارساته؛ حيث انشغاله دومًا ببناء معارف ذات أصالة وجدة، ومن ثم يستمر في حالة جمع المعلومات وترتيبها؛ ليستخدمها بحرفية في حل ما يواجهه من قضايا أو مشكلات، وهنا تتمثل براعته في المقدرة على اختيار أفضل الأطروحات أو البدائل؛ فالقضية أو المشكلة بالنسبة له لا تمثل معضلة، وما عليه إلا أن يعمل على تفكيكها ليتفهم تفصيلاتها، ويتمكن من صياغة حل يناسب أطروحتها، وتلكما وصف لأسلوب التفكير التحليلي.
وما علينا إلا أن نقدم الدعم المناسب الذي يسهم في تنمية أسلوب التفكير القائم على التحليل لدى الفرد؛ فنوفر له مصادر المعرفة والبيانات الموثوقة وندربه على آليات البحث الصحيحة والانتقاء الجيد من تلك المصادر التي باتت متاحة عبر التقنيات الرقمية، كما يتطلب أن نوفر له التغذية الراجعة التي تعمل على تقويم مساره التفكيري؛ كي نضمن سلامة البني المعرفة ونتجنب إصابته بأنماط الفهم الخطأ التي قد تتكون من مصادر يصعب التحكم فيها ولأسباب كثيرة.
ولا نتعجب عندما نلاحظ متعلم يهتم بعرض وجهة نظره الخاصة وفي كثير من الأحيان يتمسك بها وقد يتبنى ما يراه كخريطة لمستقبله المشرق، وهذا دون مواربة يشار إليه بنمط التفكير المثالي؛ فهو غاية في الأهمية في تشكيل القيم والمبادئ لدى الفرد؛ فيجب الحذر كل الحذر من أن نصادر على ما يطرحه المتعلم، بل يتوجب أن نناقشه بالمنطق والحجة والبرهان والدليل بما يؤكد لديه أن العالم المحيط به يتوافق مع قيمه ومبادئه الصحيحة ويقوم المعوج منها لتحقق الفائدة المرجوة.
وهناك أسلوب للتفكير لا ينفك عن الواقع، ولا يقبل بغيره بديلًا؛ فيحترم الملموس من النتائج ويقدر ويهتم بالملاحظ المباشرة والتجريب عند تناول قضية أو مشكلة ما؛ فما يؤدي إلى إشباع رغباته التعليمية والفكرية تلك الحلول الوظيفية التي تلامس جوهر القضية أو المشكلة التي تم طرحها، وهذا النمط تصاغ له الأنشطة الموسومة بالمهام والأدوار التي توكل للمتعلم دون غيره؛ فلا نقدم حلولًا جاهزة ولا مقترحات مستلة؛ لكن نترك المساحة والميدان أمامه ليثبت جدوى الحل.
والعرض السابق يؤكد في نفوسنا مسلمة لا مراء فيها، وهي أن الفرد يمتلك متنوعًا من تلك الأساليب سالفة الذكر؛ لكن قد يغلب إحداها على البقية، وقد يوظف بعضها في مشكلة دون أخرى، ومن ثم يتوجب علينا عند صياغة مهام أنشطتنا التعليمية مراعاة التنوع؛ لنضمن العمل على تنمية أساليب التفكير لدى أبنائنا، ومن ثم نوزع مهام الأنشطة عليهم في ضوء تفضيلاتهم التي نرصدها.
نتطلع لمعلم قادر على تنمية أساليب التفكير المحمودة التباين لدى أبنائنا، ونرجو أن تتكاتف مؤسسة الأسرة والمؤسسات الأخرى في تعظيم ما يمتلكه الفرد من تفردات تجاه ما ذكرنا من أساليب تسهم قطعًا في بناء فكر رشيد متنوع يستطيع أن يشارك بقوة في نهضة وبناء مجتمعه ووطنه قاطبة.
حفظ الله وطننا الغالي وقيادته السياسية الرشيدة أبدَ الدهر.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر