ثمت فرقٌ جوهري بين معلومةٍ يكتسبها المتعلم بالممارسة المقصودة وغير المقصودة من خلال بحثٍ وتجريبٍ يستمتع بمراحله المخططة وغير المخططة وبين متعلمٍ تقدم له تلك المعلومة جاهزةً دون جهدٍ أو عناءٍ؛ فنرى تباينًا بين من يقوم بأداءٍ فينتج ومن يتلقى فيستهلك؛ فالأول يتغير سلوكه بصورةٍ إيجابيةٍ استنادًا على ما اكتسبه من معلوماتٍ، والثاني يحتفظ بالمعلومة في حيز الذاكرة لوقتٍ محددٍ؛ فلا يتأثر سلوكه أو أدائه.
إن ما يبقى بالذاكرة ينبغي أن يرتبط بممارسةٍ تحدث أثرًا مرغوبًا فيه؛ فالخبرة التعليمية المقصودة في جملتها تتشعب لثلاثة مستوياتٍ تأتي المعرفة في المقدمة يليها الممارسة أو ما يسمى بالتطبيق يتبعهما تغيرٌ في الوجدان المأمول؛ فتتكون الرغبة تجاه اكتساب مزيدٍ من الخبرات، ومن ثم يزداد حب الاستطلاع العلمي أو ما يسمى بشغف التعلم.
ودعونا نميز بين حفظٍ يتلوه تطبيقٌ يسبقه فهمٌ واستيعابٌ، وبين حقنٍ للأذهان لا يفضي عن ثمرةٍ نترقبها؛ فعندما يحفظ المتعلم قانونًا ويطبقه على مسألةٍ تلو مسألةٍ وفق معطياتٍ متباينةٍ؛ فهذا ما نرجوه ونترجاه، يقابل ذلك حفظ المتعلم خطوات حل مسألةٍ بعينها دون فهمٍ أو فقهٍ لتطبيق القانون، ومن ثم يعجز عن حلها حينما تختلف المعطيات الخاصة بها؛ فلا مجال للتفكير الذي يعين الطالب على التطبيق بصورةٍ صحيحةٍ.
وما يحدث في المؤسسة التعليمية فيه جزءٌ يتوجب أن نتخلى عنه ببساطةٍ؛ كي لا نفسد ماهية التعليم الحقيقي؛ فإذا قدمنا معلوماتٍ بغرض أن يحفظها متعلمينا عن ظهر قلبٍ دون المرور على مستوى الفهم وما يتضمنه من استيعابٍ واستنتاجٍ ومقدرةٍ على الترجمة، ومن ثم ضرورة التطبيق والتحليل كي يستطيعوا أن يصلوا لمأمول الابتكار، وهذا مرمى التعلم المنشود في كينونته التي نفضلها، بل ونتطلع بحرصٍ للعمل بها في مستويات السلم التعليمي المصري بتنوعاته المختلفة.
وهناك حجر عثرةٍ ينبغي أن نواجهه؛ ألا وهو الاختبارات التي تجرى سواءً بصفةٍ دوريةٍ على مدار الأشهر الدراسية أو في نهاية الفصول الدراسية أو بنهاية العام الدراسي بالكامل كما هو الحال في الشهادات النهائية، إذ يجب أن تقيس وظيفية المعرفة وتقلل من مستويات التذكر لها؛ فالأمر مرهونٌ ببقاء أثر التعلم الذي يضيف إلى مربع الخبرات المربية ويصقل مهارات ووجدانيات المتعلم بصورةٍ تراكميةٍ تخلق لنا مواطنًا صالحًا يمتلك مهارات القرن الحادي والعشرين إذا ما خططنا لذلك بعنايةٍ.
ويمكننا التقليل من حقن أذهان أبنائنا بمؤسساتنا التعليمية؛ إذ ما قللنا من اعتماديته في التمدرس، وفتحنا له مجال الممارسة الوظيفية عبر مهامٍ يؤديها في صورةٍ منظمةٍ ومخططٍ لها سلفًا من قبل المعلم عبر أنشطةٍ تعليميةٍ تسعى لتحقيق أهداف التعلم المنشودة؛ فلا مجال لأن يقدم المعلم خبرات التعلم في صورتها الجاهزة سواءً أكانت بسيطةً أم معقدةً، ولا حكر على مصدرٍ معلوماتيٍ بعينه؛ فقد باتت مصادر المعرفة متعددةً ومتنوعةً، وكثرة مطالعتها تساعد في صقل محتوى الخبرة بمجالاتها المعلومة لدينا.
ونؤكد على أن كافة استراتيجيات التدريس الفعالة والتي تحد من عملية حقن الأذهان تقوم على فلسفة رئيسةٍ ألا وهي المشاركة والشراكة والجهد المنظم الذي يؤديه المتعلم أثناء إجراءات التدريس بالبيئة التعليمية؛ فقد تبدلت الأدوار القديمة للمتعلم والمعلم وصار الفاعل فيها المتعلم من خلال ما يقوم به من مهامٍ وتكليفاتٍ، يتابعه خلالها المعلم ويقدم له الدعم والمساندة ويصوب له ما قد يقع فيه من خطأٍ ويعزز جهوده ويحفزه لمزيدٍ من التعلم.
إن بيئة حقن الأذهان تسلب أبنائنا حرية التعلم وتحد من مرونته وتعدهم بشكلٍ قسريٍ عن مسارات الابتكار التعليمي وتقتل لديهم شغف الاكتشاف وتصقل كاهلهم بكم حفظٍ لمعارفٍ مجردةٍ ذات وظيفةٍ تطبيقيةٍ ضعيفةٍ أو مترهلةٍ، كما أن تفتقر لتفعيل لغة الحوار التي تساعد على تشكيل وعيٍ صحيحٍ مستندٍ على بنىً معرفيةٍ سليمةٍ؛ فتزداد احتمالات شيوع أنماط الفهم الخطأ نتيجة لتلكما الممارسات غير الصحيحة في جملتها.
لنا أن نعظم من ماهية التطبيق لما نكسبه لأبنائنا من معارفٍ؛ لتصبح الخبرة التعليمية ذات مردودٍ ومغزى ومعنى لديه، ويتوق لممارسة ما تعلمه في ميدان العمل؛ ليتأصل لديه حب العلم ومخرجاته طيبة الأثر، وليدرك فضل من يقوم على غرس أصوله، وليقدس معاقله ويقدر القائمين على إدارتها؛ فتلك قيم نبيلة وسلوكيات قويمة لا جدال حول أهميتها.
وعلينا أن نراجع ممارساتنا التقويمية التي تقتصر على قياس الجانب المعرفي في بعض مستوياته؛ لنتخلى قانعين عن فكرة حق الأذهان ونركن بقوةٍ إلى صقل الأفهام.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
حفظ الله وطننا الغالي وقيادته السياسية الرشيدة أبدَ الدهر.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر