لندرك أن طبيعتنا المتفردة تتكامل مكوناتها لتُحدث التوزان النفسي، وتُكون الشخصية السوية المعتدلة في تصرفاتها؛ فعندما يتكون في الوجدان المقدرة على الإدراك، والتي يترجمها الفهم والاستيعاب لاحتياجاتك الخاصة، ومن ثم توجه مشاعرك وأحاسيسك للعمل على تلبيتها بما يسهم في حدوث استقرار، يشكل لديك المقدرة على تحديد ما ترغب فيه وما ترفضه، وما تود أن تقوم به وما لا تفضله، وما يذهب بك إلى ملتقى السعادة وما قد يحزنك، وهذا يجعلك قادرًا على تحديد ما لديك من نقاط قوة تستثمرها ونقاط ضعف تحاول معالجتها، أو الحد من أثارها قدر المستطاع، ومن ثم يتشكل لديك وعيًا كاملًا بالذات.
وماهية الانضباط أو الضبط لها مردود على موازنة ما قد يصدر منك من تصرفات أو ما يفيض عنك من مشاعر ظاهرة ومضمرة، وهنا نرى ضرورة توافر هذا الضبط كي يحدث الاتزان الانفعالي؛ فيساعدك على أن تتجاوز المحن والأحزان والمواقف الصعبة والمحرجة، ويخرجك من حيز ضيق النفس إلى فسيح التفكير في صورته الموجبة فلا تقع فريسة للأمراض من اكتئاب وقلق مزمن يؤدي للإحباط وما إلى ذلك من مساوئ الأمور، كما أن الاتزان في المواقف السعيدة يجعلك لا تغالي في الانبساط أو الفرح أو في تمتعك بإيجابيات ما وصلت إليه أو أحداث ما تعيشه؛ فينعكس على الأداء الآني منه والمستقبلي، ومن ثم يسهم الاتزان في استدامة حالة السعادة والشعور بالرضا على المدى البعيد، وهذا ما نطلق عليه توجيه الذات.
وسلامة بناء النفس تقتضي من الإنسان أن يدرك مقومات وما يمتلكه من خبرات أو مهارات؛ فيستشعر المقدرة على العطاء ويصبح فاعلُا في مجتمعه لا يتوقف على استثمار ما لديه من طاقات وقدرات ولا يتنازل عن تنمية أدائه؛ ليقدم الأفضل ويصل لما هو أحسن، ومن ثم يتبنى فكرة الريادة القائمة على مزيد من الجهد والعمل أملًا في بلوغ مستويات الإتقان؛ فيبقى الأثر وتدوم الفائدة وتعلو هامته ويستقر وجدانه وينضج، وهذا يؤدي به لأن يحب ذاته ويقدرها وهذا بيت القصيد من كل ما تقدم؛ فلا يصاب بالغرور أو الكبر أو الأمراض التي تدمر ماهية الوجدانيات الصحية لديه؛ فيصبح عدو لنفسه وللآخرين.
وصلابة النفس ومقدرتها على العطاء تشير حتمًا لأنسان يحمل في خلده قضية الإعمار وفق فلسفة الاستخلاف في الأرض؛ فيستطيع أن يضع من الحلول ما يواجه به التحديات ويحل به الأزمات ويجتاز به الصعاب ويقدر على أن يتخذ من سياسة القرارات ما يحقق هدفه المنشود وفق آليات صحيحة وسلوكيات حميدة؛ فيحرص دومًا على تقييم نفسه ليردها ردًا جميلًا ولا يسمح لها بالانغماس في غيابات الشيطان ومكره، وهنا تنمو لديه ماهية التوكيدية التي تؤمنه وتجعله يسير على الصراط المستقيم؛ فلا تفتنه جماليات ومظاهر تخلو من معنى الحياة الطبيعية التي يكمن فيها الخير، وهذا مردوده يتضح في مقدرته على إقامة علاقات اجتماعية تفاعلية سوية مع الآخرين.
وتوافر العاطفة أمرٌ محمودٌ في الطبيعية الإنسانية؛ فمن خلالها ندرك مشاعر الآخرين ونقدر تطلعاتهم وآمالهم وطموحاتهم وأفراحهم وأحزانهم وتبين انفعالاتهم الجياشة منها والمنضبطة، وهذا يساعدنا في إصدار أحكامٍ صحيحةٍ حيال كثير من الأمور ونتجنب أن نحدث فجوة أو أثرًا غير محمود لدى الآخرين، ويدفع بتعاملاتنا في الطريق السليم؛ فلا نقسو في موضع اللين ولا نستهين في موقف الشدة، ومن ثم يصبح التعاطف صفة وجوبية تحقق الغاية منها وتدفع بني البشر احترام بعضهم البعض وتقوية العلاقات التي تقوم على فيض المشاعر وحسن التعامل.
وعندما نرصد سلوك إنسان يتمتع بحالة انفعالية متزنة وصحة عقلية وبدنية جيدة وإطار من العلاقات الاجتماعية المتميزة والإيجابية ويمتلك رؤية واضحة نحو مستقبله الذي يراه مشرقًا ويعيش في سياج يغلفه الرضا والمحبة؛ فحينئذ نقول عنه بأنه واثق بنفسه؛ فلا نخشى عليه من موجات التغير الحياتية أو الضغوط أو النوازل؛ حيث يوجد لديه مستوى من الهمة والعزيمة والإرادة لا تفتر، ومقدرة لا يستهان بها ترتبط بالتوافق والتكيف والاندماج.
وفطنة الإنسان تكمن في ماهية التكيف والتوافق التي تجعله مرنًا مع نفسه وأسرته ومجتمعه وبيئته؛ فيتمكن من تحقيق غاياته الكبرى بالصبر ومزيد من الأمل الممزوج بالطموح والشعور بالسعادة وحلو الحياة رغم قسوتها، وهذا لا ينفك على تحليه بحسن الأخلاق وجليل القيم التي تنسدل من معتقده السمح ومجتمعه الذي يؤمن بماهية التعايش السلمي، ومن ثم يعضد الحق ويقهر الباطل ويعمل على إزالة الظلم والعدوان والفساد بكل أنماطه.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بالقاهرة _ جامعة الأزهر