بداية نثمن جهود ومحاولات ورؤى مؤسسات الدولة في مواجهة التحديات القائمة منها والمستجدة، ونذكر بأن إصلاح التعليم المصري يقوم على تمهين المعلم في المقام الأول، وهذا يعني ببساطة امتلاكه لمهارات وكفايات مهنية وأكاديمية تمكنه من الأداء التدريسي الفعال؛ فيستطيعوا توظيف استراتيجيات وطرائق التدريس وأساليبه المبتكرة لخلق مناخًا يسهم في توفير أدوار حقيقية للمتعلمين عبر مهام أنشطة تعليمية إجرائية ينفذها المتعلمون تحت متابعة وإشراف وتعزيز وتغذية راجعة من المعلم.
كثافة الفصول الدراسية مؤشر إيجابي للطلب على التعليم، وفي ذات الوقت يمثل إشكالية قد يتفق عليها الجميع؛ لكن من وجهة نظر متخصص خاض غمار الجانب النظري والتطبيقي أجد أن هناك حلولًا كثيرة تعتمد في المقام الرئيس على القناعة بجدواها والعمل الجادة لتنفيذها، وكي لا أطيل استعرض فيما يلي هذه الحلول بصورة مبسطة متمنيًا التأمل والإمعان في مكنونها.
هناك سلاحٌ قويٌ يجب أن يتدرب عليه المعلم كي نرى منه تدريسًا فعالًا؛ فالتدريس لا يعني مقدرة المعلم على الشرح فقط؛ فهذا جزء من كل؛ لكن السلاح الذي أقصده يتمثل في تنوع استراتيجيات وطرائق التدريس الحديثة والتي يمكن ممارسة مراحلها داخل البيئة الصفية بصورة مبسطة وسلسة تحدث انسجامًا مع جميع المتعلمين الذين يجدون أدورًا لهم يؤدونها رغم كثرة عددهم، كما ننوه بأن هذه الاستراتيجيات والطرائق يمكن توظيفها بحرفية عبر المنصات التعليمية الرقمية، وهنا ضمانة التطبيق في متنوع البيئات، وهذا أمر يتدرب عليه المعلم من خلال منابر التدريب المسئولة والمعنية.
ومن أمثلة استراتيجيات وطرائق التدريس الحديثة التي تسهم في التغلب على مشكلة كثافة الفصول استراتيجية التدريس بالفريق الطلابية المتميزة؛ حيث يتقاسم المتعلمون الأدوار والمسئوليات التي تضمن فرص التفاعل وتبادل الخبرات، ومعنا استراتيجية البحث الجماعي، وقد نسميها الاستقصاء التعاوني، أو التخطيط التعاوني (التعلم بالمشروع)، والبحث الجمعي وتمثل إحدى استراتيجيات التعلم التعاوني الفعالة، التي تقوم على تقسيم الطلاب لمجموعات تتشارك في تنفيذ الأنشطة وحل القضايا عبر طرح أفكار ومناقشة واستفسارات وغير ذلك من صور التفاعل المحمود.
وعبر المنصات التعليمية الرقمية التفاعلية يسهل على المعلم أن يوظف استراتيجية مسابقات الفرق التعليمية لأكثر من درس للمادة المتعلمة؛ حيث يتمكن من تحقيق الهدف منها، والذي يبدو جليًا في التنافس الإيجابي بين المتعلمين والرغبة في مزيد من التعلم للانتقال من مستوى أكاديمي سواء أكان تحصيليًا أم مهاريًا إلى مستوى أعلى، يسهم في تعميق المفاهيم لديه، ويؤدي لحدوث بقاء أثر التعلم، ويشمل جميع الطلاب بمستوياتهم وقدراتهم المتباينة، ومن ثم تُعد إحدى الحلول التي تسهم في التغلب على الكثافة الطلابية.
ومن الاستراتيجيات التي تستوعب أعداد الطلاب المتزايدة بالفصل أو المعمل استراتيجية المحطات العلمية التي من خصائصها الاهتمام بالجانب العملي وربطه بالجانب النظري؛ حيث تقوم على عدد غير محدود من المحطات متنوعة الخبرات العملية والنظريات، تحت مسميات مقترحة في ضوء خصائصها، اعتمادًا على طبيعة محتوى التعلم وما يتوافر من إمكانيات ببيئة التعلم، مما يسهم في تنمية مهارات التفكير العليا لدى المتعلمين ويضفي على العملية التعليمية مناخًا جيدًا للتعلم؛ فمن خلال مراحلها تبدو سهولة وسيولة الحركة والتجوال لمجموعات التعلم في صورة منظمة، يكتسب من خلالها جميع المتعلمين خبرات متنوعة مرتبطة بنواتج التعلم المرتقب تحقيقها.
وعندما يتمكن المعلم من ممارسة مراحل استراتيجية المهام التعاونية ويدرب المتعلمين على أدارهم بمراحلها؛ حيث يقسم المتعلمين إلى مجموعات غير متجانسة تسمى المجموعات الأساسية ويتراوح عدد أفراد كل مجموعة أساسية من (4-6) متعلمين؛ ويقسم موضوع الدرس أيضًا إلى (4-6) أجزاء تسمى مهامًا، بناءً على عدد أعضاء المجموعة ويكون كل متعلم داخل كل مجموعة مسئول عن تعلم جزء من المادة، ثم يلتقي أصحاب المهام الواحدة من المجموعات المختلفة في مجموعة مؤقتة تعرف بمجموعة الخبراء يتدارسون فيها المهمة المخصصة لهم، وبعد ذلك يعود كل متعلم إلى مجموعته لتعليم زملائه ما تعلمه في مجموعة الخبراء وذلك في جو من التعاون وتبادل الأفكار والمعلومات بين أعضاء المجموعة الواحدة والمجموعات المختلفة.
وتجنبًا للإطالة في عرض واستعراض المزيد من استراتيجيات وطرائق التدريس الحديثة، نؤكد بأن هناك الكثير والكثير منها والتي تصلح مراحلها وما تتضمنه من خطوات إجرائية في التعامل مع الأعداد الكبيرة من الطلاب بقصد إكسابهم خبرات التعلم المستهدفة؛ فهناك استراتيجية دوائر التعلم واستراتيجية التعلم التعاوني الإتقاني واستراتيجية التعلم المتمركز حول المشكلة، وبالطبع تتخللها طرائق وأساليب تحقق الغاية منها.
ونستطيع أن نواجه كثافة الفصول الدراسية من خلال فلسفة النشاط التعليمي إذا ما قدمناه بشكل صحيح في البيئة التعليمية الواقعية أو الافتراضية؛ حيث يشكل الممارسة الفعلية التي يؤديها المتعلم، منفرداً أو بمشاركة زملائه، وتحت إشراف المتعلم، وفي ضوء طبيعتها تحدد مداخل، أو طرائق، أو أساليب، أو استراتيجيات التدريس، وأساليب التقويم وتترجم الأهداف الإجرائية التي تم صياغتها، ومن ثم نقدم التغذية المرتدة، ونمط التعزيز المناسب، وكي نضمن نجاح النشاط التعليمي في التغلب على الكثافة الطلابية يلزم إعداد مهمة لكل متعلم يؤديها فنستثمر طاقته ونستغل قدراته بصورة إيجابية، وهذا بالطبع مرهون بمقدرة صياغة المعلم للنشاط بما يحقق الغاية منه.
ومن قبيل المواجهة أعلن تأييدي لفلسفة التقويم المتعدد أو البديل، وفي المقابل أعلن رفضي للتقويم القاصر على الجانب المعرفي في مستويات محددة، وأرى أن التقويم البديل يساهم في التغلب على كثافة الفصول الدراسية؛ فمن خلاله نصف طلابنا بشكل صحيح، ومن ثم نقدم لهم المهام التي تتضمن الخبرات التعليمية بما يتناسب وقدراتهم التعليمية، وبما يمكننا من استثمار ما لدى المتعلم من ملكات يتفرد بها؛ فيشارك المتعلم في إيصالها لأقرانه، وعليه تصبح البيئة الصفية ذات طابع ديناميكي.
وها هي المنصات التعليمية الرقمية التي تعد من عوامل التغلب على كثافة الفصول وتزايد الأعداد؛ فيمكن من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي المتضمنة بها أن نحدث مرونة في وقت التعلم، ونوسع من مشاركات العينة المستهدفة، وننوع الخبرات ومصادرها، ونحسن من التواصل بين أطراف العملية التعليمية، ونوطد من العلاقات الاجتماعية فيما بينهم، ونقضي على ظاهرة الفروق الفردية من خلال ضمان المشاركة الكلية لمهام تناسب القدرات والخصائص، ناهيك على خفض الكلفة مقابل العائد، ولا ننكر أن في الجعبة الكثير من الأطروحات التي تتلافي آثار مشكلة كثافة الفصول الدراسية.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر