إن ما يُسهم في تبادل الرؤى والآراء والخبرات والمشاعر التي يغمرها وحدة الهدف والمشفوعة بالمحبة؛ إنما مردوده في نهاية المطاف لنتاج عديد ومتعدد؛ إذ يحدث التفاهم المنشود والتعاون المثمر، ومن ثم توضع لبنة البناء لتعلو يومًا تلو الآخر؛ فتزول الأشواك وتتبدد الصراعات والخلافات، وتذهب الكراهية وألوانها والتحاقد وصوره البغيضة دون رجعة، وتتقارب وجهات النظر حول الغاية الرئيسة، وهذا ثمرة الحوار الهادف دون ريب.
إن مفتاح التقارب بين البشر يكمن في تواصل ولغة طيبة بناءة تحض على التضافر وتقضي على صور الخلاف والنزاع؛ فالتجمع محمود والفرقة مذمومة، والتكامل غاية والتشرذم نهاية، والتباين رحمة ولغة الحوار متسع للجميع؛ حيث يعضد الحوار روابط الشراكة ونقاط التواصل ويزيد من مسارات التفكير الإيجابي، ويصقل الرأي السديد ويصوب المشوب من الفكر؛ فتصبح للمواطنة دعائمها الجامعة والمصلحة العليا مكانتها المستحقة.
ونوقن بأن الحوار عاد مطلب لا يوازيه أو يقابله مطلب، في خضم عالم يعج بالتحديات والتصادمات والخلافات التي أدت لنزاعات دموية وغير دموية، ومن ثم نرى أن ضمانة الحصول على ثمرة الحوار بين طرفين في إطار الأسرة الصغيرة، أو المؤسسة الكبيرة، أو الحيز المجتمعي الجامعي، إنما يقوم على آداب وأسس إذا ما تمسكنا بها وقمنا بتفعيلها، نستطيع أن نجني محامد الحوارات والنقاشات، رغم تباين الفكر وتعدد الرؤى، وإذا تجاهلنا آدابه فإن نتيجة الفشل واقعة لا محالة؛ حيث إن الاحترام المتبادل بين طرفي الحوار يؤدي حتمًا لنوع من الانسجام الفكري الذي يتمخض عن نتائج وآثار مرتقبة، كما يسهم في استيعاب جميع الأفكار الواردة ويعمل على تنقيحها، ويصل من خلالها الجميع إلى تحقيق الغاية من هذا الحوار.
وبغض النظر عن ألوان وصور الحوار؛ فما يعنينا أن تجتمع العقول حول مشكلة من المشكلات، أو قضية من القضايا، ويتم تناولها ودراستها بأسلوب منظم، في مناخ مواتي؛ لنستخرج عبر فعاليات هذه الحوار العديد من الأطروحات والتي منها نصل لحل المشكلة أو نهتدي إلى رأى قويم في موضوع القضية، وهنا يتوجب أن يعتمد الحوار على تحديد موضوعه بدقة ووضوح بحيث تكشـف للمتحاورين الخطوات المـراد انجازها في وقت محدد بآليات واضحة منظمة؛ حينئذ نقر بأن الحوار ناجح.
ومن مقومات نجاح الحوار أن تتوافر العديد من السمات التي يتوجب أن يتحلى بها المنظم للحوار وجلساته، والتي تبدأ بتعمقه في موضوع الحوار أو القضية محل الاهتمام، واتقانه لمهارة صياغة الأسئلة وكيفية توجيهها، وتوقيت توجيهها للمشاركين، ومن ثم يتوجب عليه أن يضع مخططًا مسبقًا للحوار وما يتخلله من نقاشات، مراعيًا ومدركًا خصائص العينة المشاركة في الحوار حتى يتمكن من التعامل معها، ويحصد ثمرات مرجوة.
وعلى من يدير الحوار ضرورة الانتباه طوال جلسات الحوار والنقاش لإجابات المشاركين في هذا الحوار، حتى يتمكن من تقييم مستوى الحوار في نهاية المطاف، وأن يتحلى بالموضوعية، بمعنى يتجنب التحيز لمشارك ما أو مجموعة ما من المشاركين؛ فرشد قيادة الحوار تعني أن يمتلك منظم الحوار قدر مناسب من الانتباه وقوة الملاحظة لجميع الأحداث خلال مجريات الحوار، ويستطيع أن يوجه النقاشات، ويتحكم في سيرها، وفي وقتها، وأن يتخذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب، ومن ثم يمتلك المقدرة على تلخيص الأفكار الأساسية للقضية الحوارية.
وننوه إلى أن المهارات الحوارية خير ضامن للوصول إلى نتائج طيبة جراء ما يتم من نقاشات وتبادل لوجهات النظر بصورة منضبطة؛ حيث ينبغي أن يراعي منظم الحوار زمن النقاش في كل عنصر من عناصر الحوار والبعد عن استهلاك الوقت في نقاط فرعية، وأن يحافظ على سير النقاش، والسيطرة على بعض المشاركين الذي يحاولون احتكار النقاش لصالحهم، وأن يظهر الجدية والرصانة ويتجنب السخرية من آراء المشاركين مهما كانت آراؤهم حول موضوع النقاش، ويراعي البساطة والبعد عن التعقيد في التعبير عن الآراء وتجنب اللجوء إلى الخطب والألفاظ الرنانة التي لا يفهمها بعض المشاركون، ويتأكد من انغماس كافة المشاركين في الحوار مع الاهتمام بإثارة غير المشاركين في الحوار والعمل على جذب انتباه الشاردين نحو المشاركة في النقاش.
ولنا في الحوار الوطني المصري المعتبر والقدوة في تناول قضايانا مهما تنوعت؛ إذ يُعد الحوار الوطني عملية تفاعلية تسمح بتبادل الرؤى والأفكار والآراء من قبل أطراف تمثل أطياف المجتمع دون استثناء، ترتكز في مجملها على الشفافية والتوافقية حول الصالح العام للدولة المصرية، وتعتمد في إنجاح جلساتها على أسس وآداب الحوار المتعارف عليها، وتستمد مقوماتها من خبرات الآخرين؛ لتحدد عبر نتائج المناقشات المصاعب والأزمات والتحديات الحالية والمحتملة لتتوافق على آليات التغلب عليها، ومن ثم التوصل إلى صيغة توافقية يرتضيها الجميع؛ لضمان مناخ سياسي ملائم وداعم لكافة الأطراف المتنافسة.
وقد ارتأت القيادة السياسية الرشيدة بعد استتباب الأمن والأمان في بلادنا المحروسة ضرورة تنظيم حوار مجتمعي بين الأطياف والكيانات السياسية المصرية المخلصة لتراب بلادها والمهتمين بقضايا البلاد والعباد، من أبنائها أصحاب الفكر المستنير لتتقابل الرؤى البناءة وتتعمق العلاقات الإيجابية بين هذه الكيانات لتصل إلى توافق يمثل الإطار العام للعمل السياسي الذي يلتزم به أطراف التنافس دون صراعات ينتج عنها سلبيات يحصد نتاجها المجتمع، ومن ثم يتحقق التكافؤ المبني على التنوع والتعدد السياسي وفق مسارات ديمقراطية تتسم بالشفافية والاحترام، ما يُسهم في دحض رواسب الماضي التي تمخضت عن ممارسات سابقة غير سليمة، أسست على المصلحة الخاصة.
وتقوم فلسفة الحوار الوطني أيضًا على مُسلمة التفاهم المشترك بعد المرور بتعدد الرؤى حول القضية المطروحة على ساحة الحوار؛ ليصل المشاركون في النهاية لعددٍ من المقترحات والتوصيات ذات الصبغة الإجرائية، والتي يمكن تفعيلها من قبل المؤسسات المختصة تحت رعاية الدولة وقيادتها السياسية، ومن ثم فلا مجال للتناحر أو المزايدة عند عقد جلسات الحوار؛ كي لا يستقر في وجدان المجتمع الذي يثق في مؤسساته ونخبته أن التباين في الرأي حتمًا يؤدي إلى الخلاف؛ فهذا منطق غير مقبول، ولا تستهدفه الدولة من عقدها لجلسات الحوار الوطني في صورته الجامعة.
إن الحوار الوطني يضمن سلامة الفكر المجتمعي؛ حيث تبني الوسطية والاعتدال في تناول قضايا الوطن التي لا تنتهي، وبناء الفهم الصحيح تجاه الإصلاحات الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية، وهذا ما يحفظ لجمهوريتنا الجديدة استقرارها ومن ثم نهضتها وريادتها، ويحقق استراتيجيتها المستدامة.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر