عندما يتخلى الإنسان عن منظومة القيم والمثل الوجدانية تصبح حياته زاخرة بالضغوطات والمشكلات والأزمات المحيطة بها شرور وكوارث لا تنتهي؛ فيكتوي بلهيب نيران المهالك التي تسحق راحته النفسية والبدنية؛ فلا هو قادر على العطاء، ولا يشكل الصيب النافع لديه درجة من الاهتمام؛ فجوانب الصراع ودائرته تزداد يومًا تلو الآخر، فتتبدد الجهود وتزداد الخلافات والأحقاد والمكائد والضغائن التي تستحوذ الملكات والأفئدة.
وبعيدًا عن منظومة القيم النبيلة يصعب أن تصدع المجتمعات بالحق دحرًا للباطل وبالعدل انهاءً لحلقات الظلم، وبالحقيقة في سبيل تفنيد الزيف؛ فالشائع حينها تخلي الضمير الإنساني عن الخير المطلق، واختيار النفعية المتمثلة في المادية السبيل والطريق الأوحد، وهذا الخطر الداهم لا سبيل لمواجهته إلا بالنسق القيمي الذي يعيد الحق لأهله، ويعلو من قيمة الإنسان، ويعمل مفردات الطبيعية الإنسانية الخيرة، وينزع فتيل التنافس البغيض، ويستبدله بالتكافل والشراكة والتعاون في صورتها الحميدة التي تضمن البقاء ونقاء النفوس؛ فتشيع ثقافة التسامح بين الناس والتعايش المبني على أسس الاحترام والمودة والتقدير.
ولدور العبادة دورٌ في التنشئة المجتمعية الوسطية التي تقوم على القيم النبيلة، بما يعول عليها بناء فكر صحيح يصاحبه خلق قويم يعين الإنسان بعد خروجه من دور العبادة أن يستمد القوة والطاقة التي يمتلكها في دروب الخير وعمل المعروف واجتناب كل منكر؛ حيث يستظل بشعاع النور الروحاني المشفوع بمعرفة وعلم عقدي يوجه السلوك في إطاره الصحيح ويصوب الخطأ الذي قد ينزلق إليه الفرد في حالة الضعف أو الجهل، وتلك هي التربية الإيمانية العميقة التي تؤصلها دور العبادة في نفوس قاصديها وروادها في أوقات في الغالب محدودة.
ومنابر الخطابة والوعظ والإرشاد في دور العبادة يرتادها من يمتلكون المقدرة على إيصال الرسالة، التي من شأنها تهذب النفوس، وتعلي من قدر القيم النبيلة، وتعزز السلوك القويم، وتحض على ترك كل ما يستنكره المجتمع والعقل الرشيد ويغضب رب السماوات والأرض الذي خلقنا من أجل الإعمار والعبادة، في أرض مليئة بالخيرات وتسع الجميع في شتى ربوعها، ومن ثم تغرس تلكما المنابر الفكر الإيجابي بدعوة وسطية تحمل السلم والسلام والود والوئام والرحمة؛ فتسكن النفس وتدحض الصراعات التي تنسدل من مطامع زائلة وأفكار باطلة ومعتقدات يشوبها الفساد ولا ترتكن على منطق يقبله الضمير الجمعي.
ولما كان لدور العبادة في النفس مكانة، وللشعائر التي تجرى بين جدرانها وقار واحترام وقداسة؛ فإن تأثير الموعظة على العاطفة، أو ما نسميه بالوجدان له بالغ الأثر، ومن ثم يتوجب أن تقوم على منهجية رصينة تبدأ بتخطيط مسبق، مشفوع بشواهد وبراهين وأدلة تحرك الذهن وتجعله في حالة من اليقظة؛ ليتعاطى الفكر منه نفحات الموعظة، ما يسهم في تنمية النسق القيمي لدى المتلقي، ويؤدي لأن يمارس طيب السلوك الحميد الذي يعود عليه والآخرين بالصيب النافع والأثر الباقي.
وفي هذا الخضم لا ينبغي بحال أن تنفك موعظة، أو إرشاد، أو توجيه، أو شعائر، من خلال دور العبادة عما يحدث بالمجتمع، ويشغل الأذهان التي تهرب من زخم الحياة لتعود إلى طبيعة الاستقرار والهدوء عبر نسائم الرحمات والتجليات التي تُساق من أُناس يمتلكون المقدرة والكفاءة والكفاية على تقديم أحسن القول، بسجع من الكلمات التي تتفتح لها الأفئدة، وتنجلي لرقتها القلوب، وتصغى الآذان لسماعها والانصات لمعانيها الراقية والرقراقة؛ فيحدث المنشود من صقل للقيم النبيلة والأخلاق الكريمة الحميدة، فنراه عين اليقين ينعكس على السلوك العام منه والخاص على السواء.
إننا نعيش حقبة من الزمان غير مسبوقة من الأحداث الدامية وغير الإنسانية في كليتها، ومن ثم نحتاج لأن تقوم دور العبادة بدورها المنوط منها؛ حيث العمل على بناء العقول السوية التي تتجنب الانجراف للفكر الهدام، والخروج عن سياق الطبيعة الإنسانية التي فطرنا عليها، وفي الحقيقة تعاني المجتمعات من غياب الضمير الجمعي الذي يوجه الشعوب نحو اتخاذ المواقف تجاه من يحدث جرائم أضحت عابرة للحدود، وثقافات تدمر العقول وتقضي على ماهية النهضة والنماء، وتحض على المادية المقيتة التي تلبي الاحتياجات في صورتها غير الأخلاقية؛ فالجنوح عن الطبيعة بات شعار تلك الثقافات التي تحث على التطرف بصوره المختلفة، والعزوف عن العقائد في صورتها الكلية، واستبدالها بالتحرر من منظومة القيم التي تصفها وفق فلسفتها بالبالية.
وهنا ندق أجراس الخطر حيال ما يهدد أو يهدر مقدرات الأوطان، ومن ثم يتوجب أن تنشط حركة التوعية والوعظ والإرشاد بربوع الدولة الحبيبة تجاه ما يحدق بأبناء الوطن؛ فنعمل بصورة مقصودة على تنمية النسق القيمي النبيل والأخلاقي الحميدة، اللتان ترسخان لتكوين الاتجاهات الإيجابية، وتعضدان السلوك في صورته القويمة، وتجعلا لتقويم الذات مكانتها بما يضمن بقاء الفرد على الصراط المستقيم؛ فإذا ما انحرف عنه حثته عقيدته وضميره الحي والموعظة والإرشاد المستدامة من دور العبادة إلى الرجوع للمسار القويم.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر