تشكل رواية «البصاص» للكاتب مصطفى عبيد نموذجًا ابداعيًا لتلك الروايات التي تستلهم التاريخ استلهامًا فنيًا للتعبير عن العصر الحاضر عبر شرفه هذا التاريخ، وتحديدًا فترة الحكم المملوكي التي تمثل حلقة مهمة من حلقات التاريخ العربي عامه والمصري خاصة، لما شهدته من أحداث وتحولات كبرى سياسياً واجتماعيا وفكريا ألقت بظلالها على الشخصية المصرية والحياة الاجتماعية عامه في تلك الحقبة التي تتشابه بعض أحداثها مع أحداث العصر الحاضر، من ثمَّ فان اختيار هذه الحقبة اختيار له دلالاته في ذهن الكاتب، يقيناً منه بان أحداث التاريخ ممتدة في نسغ الشخصية العربية، وتتكرر هذه الأحداث بصوره أو بأخرى، لا سيما الأحداث المشينة التي تدين هذا العصر أو هذا الحاكم أو غيره وخاصه في المجتمعات المتخلفة التي تتخذ من الفكر الماضوي الرجعي سبيلًا للاهتداء به وتخاصم عصر التنوير والتحضر وتعادي المستقبل.
يضعنا مصطفى عبيد أمام لوحتين تكادان تتطابقان، الأولى ما كان يحدث في العصر المملوكي عبر عين مؤرخه الأشهر عبد الرحمن الجبرتي، والثانية تصور العصر الحاضر عبر عين بطل الرواية كرم البرديسي مدرس التاريخ بكلية الآداب الذي يتخذ من الجبرتي نبراسًا وهاديًا لفهم حاضره المقيت، كما يراها. يتخذ كرم البرديسي بطل الرواية من دراسته للتاريخ منطلقًا لفهم حاضره المجتمعي من وجهه نظره، وذلك من خلال موضوع اختاره لإنجاز درجة الدكتوراه في التاريخ هو «تطور النظام الأمني من عصر المماليك الى عصر محمد علي»، متخذًا من شخصية البصاص نموذجًا ولاعبًا رئيسيًا في نظام الامن في كل العصور وعبر كل طبقات المجتمع من الصغير الى الكبير، فظل على امتداد الرواية يساوره الشك في كل المقربين منه، متهمًا إياهم بالتلصص والتجسس عليه، بداية من صالح بواب العمارة التي يقطن فيها وحتى صديق عمره حسن السويسي وجاره الطبيب أحمد، وكذلك حبيبته ندى الصحفية التي أحبها وبادلته الشعور نفسه، متفقين في النهاية على الزواج بعد إتمام دراسته للدكتوراه، وامتداد ذلك الاتهام من جانبه إلى كل شخص يقابله ويتحدث إليه في كل مكان فيؤدي ذلك الى اضطراب علاقاته بمن حوله من الأصدقاء والجيران والأحبة، ويكتشف في النهاية أنه من كان سببًا في إيذاء بعضهم والقبض عليهم من جانب رجال الأمن وأنه هو البصاص الحقيقي من حيث لا يشعر.
البطل المغترب
إن البطل في الرواية هنا نموذج للشخص المغترب اجتماعيًا، فبعد وفاة والده سالم البرديسي الموظف في دار الكتب، والذي كانت غايه أمله أن يرى ابنه أستاذًا للتاريخ قبِل كرم، تغلبنا على ظروف فقره، أن يعمل مراسلًا لإحدى الصحف العربية حتى يقيله العمل من عثرة الفقر ويستكمل دراسته، لكنه يكتشف في النهاية أن هذا العمل كان السبب في الإيقاع بكل من حوله من أصدقاء وأحباء في مشاكل كثيرة، وأنه كان بمثابه البصاص والمتجسس عليهم من خلاله، ولم يكن عملًا صحفيًا حقيقيًا، بل كان الهدف منه العمل بصاصًا لرجال الامن، وتبدو ملامح هذا الاغتراب بصوره جلية على امتداد فصول الرواية، حيث يبدو مضطرب العلاقة مع كل من حوله تشاوره الشكوك في أنهم بصاصون جواسيس متربصون به في كل الاوقات، وقد عبر كرم عن ذلك في منولوج داخلي بقوله: “هنا القاهرة البصاصون في كل وجه، البصاصون حولك في كل مكان، الهواء الذي تتنفسه وفي الدخان الذي تستنشقه وفي القهوة التي تستعذبها، البصاصون لا يختبئون في كتب التاريخ فقط وإنما هم يجاهرون بفعالهم في الحاضر، البصاصون هم أولئك الذين لا تتخيلهم أبدًا ربما إخوتك، بنوك، عشيقاتك، وقد تحسبهم يحبونك ومن تحسبهم يحبونك”.
الزمن
بحسب تقسيم جرار جينت للزمن الروائي الى زمن القصة وزمن الخطاب فان زمن القصة الحكاية في رواية “البصاص” لا ينفصل عن زمن الخطاب الذي يتم به تقديم تلك القصة أو الحكاية، وهو ما أشار إليه بول ريكور وهو بصدد تعريفه للزمن بقوله: فالزمن لا يمكن أن يكون الا محكياً، ولا وجود لزمن خارج تجربه إنسانيه تعبر عن نفسها من خلال فعل أو رد فعل، يجب أن تكون منظمه في الممارسة الإنسانية لا خارجها، ولعل ذلك ما يتبدى في سؤال الراوي أو تساؤل الراوي كرم البرديسي في منولوج داخلي دال على ما يعتمل داخله، معبرًا من خلاله عن تلك المفارقة الزمنية بين عصره وعصر المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي الذي لا تفارق صورته مخيلته داخل بيته من خلال صورته المعلقة على جدار الحائط وخارج ذلك البيت أيضًا “ماذا كان بوسعه أن يكتب ذلك الشيخ الملتحي الغائص في الرضا والملك لمال لا آخر له يمنحه راحه البال والاكتفاء بالتدوين والكتابة لو عاش زمن العولمة، ما هو رد فعله لو علم أن كرة الموت يحملها نسر معدني آلاف الكيلومترات يمكنها أن تقضي على مدينة كاملة بسكانها؟ ما هو حجم دهشته لو أدرك الآلة الحاسبة أول البريد الإلكتروني أو حبات الفياجرا، ربما كان استغرابه من نابليون عندما أوصل الكهرباء في جثث الموتى لتنتفض مجرد جهل شرقي بتطور العلم الأوروبي، لكن دهشته لا شك أكبر من استمرار تدفق الابتكارات في بلاد الكفر وتنامي البلادة والتخلف في بلاد الإسلام”.