كان( شنٌ ) رجل كثير الترحال وكلما حط رحاله في بلدة رمى للناس كلام غير مفهوم ، والذي نسميه (الغريب المتقعر من لغة العرب) أي الكلام الملغز الذي لايٌفهم من ظاهره بل من باطنه وتأويله.
وفي مرة تعرف شنٌ على رجل وهما يقتربان من دخول إحدى القرى ، ففتح شن فمه وألقى بألغازه للرجل قائلا:
أاحملك أم تحملني؟
فبحلق الرجل في وجه شن متحيرا ثم قال:
أنا راكب وأنت راكب فلماذا احملك أو تحملني!!
فسكت شن
بعدها مرا على مزارعين يجمعون سنابل القمح استعدادا لبدء موسم البيع ،فنظر إليهم شن وألقى باللغز الثاني للرجل وقال:
هل أكل القوم من قمحهم أم لم يأكلوا ؟
فأجابه الرجل ساخرا:
كيف يأكلون منه يارجل وهو مازال في سنبله !!
فسكت شن مرة أخرى ولم يعلق
ثم مر بقربهما قوم يشيعون جنازة ،هنا سأل شن صاحبه قائلا:
أحي هذا الرجل أم ميت؟
فطفح الكيل بالرجل وصاح بشن:
مابك يارجل؟ ألا ترى بأنه ميت قد غسلوه وكفنوه وسيواروه الثرى،فكيف يكون حيا!!
هنا غلق شنٌ فاه ولم ينبس بعدها بكلمة واحدة حتى وصلا لبيت رفيقه حيث استضافه تلك الليلة كونه غريب عن القرية.
دخل الرجل على ابنته وقال:
يابنيتي ضعي طعاما لهذا الرجل المجنون الذي معي فقد أرهقه السفر.
سألت البنت:
ولمَ تقول عنه مجنون ياأبي؟
فقص عليها ماتفوه به شن من حماقات ،ضحكت البنت وفسرت لأبيها أسئلة شن الثلاثة ،عندها عاد الرجل ووقف أمام شن وهو يقول:
عندما سألتني اتحملني ام احملك كنت تقصد أتبدأ الحديث أنت أم ابدأه أنا اليس كذلك؟
قال شن :نعم هو كذلك
فقال الرجل:وحين قلت هل أكل القوم من قمحهم أم لم يأكلوا كنت تقصد هل استدانوا من التاجر الأموال مقابل القمح الذي سيحصدونه في سنبله أم كله لهم ولم يستدينوا ؟
قال شن:هذا ماقصدته بلى
فقال الرجل:وحين سألتني عن الجنازة وقلت أحي هو أم ميت؟ كنت تقصد أللرجل أبناء فيحملون ذكره أم هو بلاولد فينقطع نسله ويمحى ذكره؟
قال شن بلى، ولكن هذا القول ليس من رأسك فقل لي من فسره لك؟!!
فاخبره الرجل عن ابنته الفطنة التي تفهم الغريب المتقعر من لغة العرب فطلبها شن للزواج ورحل بها إلى دياره فأطلق القوم على قصة شن وألغازه وزوجته المثل المعروف (وافق شن طبقه).
وكان مافكر فيه (شن ) هو أهم معيار من معايير اختيار شريك الحياة، وهو التكافؤ الثقافي لدى الزوجين ،ويبدو أن شنٌ هذا كان يفهم جيدا أسرار الزواج الناجح.
وقد ضرب العاشقان ( الموسيقي والطبيبة) معيار التكافؤ هذا بكل تصنيفاته عرض الحائط في مسلسل(الحب وأشياء اخرى) من بطولة الجميلة آثار الحكيم وعشبي العينين ممدوح عبد العليم رحمه الله.
ولأن التلفزيون والسينما يلعبان على وتر واحد إلا وهو المشاعر لدى المشاهدين فقد أنهى المخرج سلسلة الصراعات بين الزوجين بالمشهد الأخير المؤثر جدا في المطار (الندم والبكاء).
حيث كان الزوج الموسيقي يقف مهموما مغموما على سلم الطائرة تلتاع روحه وتستحيل إلى حبات في ماء يكاد يغلي ، بعد ان طلق زوجته الطبيبة الثرية قاصدا بلد بعيد يكمل فيه دراسته العليا ليحصل على لقب(دكتور) ليتساوى مع اللقب الذي كان يستفزه كثيرا حين ينادون به زوجته(الدكتورة).
أما الزوجة الطبيبة فقد وصلت المطار متأخرة في مشهد النهاية تصرخ بصمت كذئب يصرخ على قمر بعيد، سابحة بدموعها تنظر للطائرة القاسية وهي تحلق بعيدا في السماء مثل صقرٍ فتي، تحمل في جوفها الزوج الحبيب ولم تمهلها لتقص عليه حكاية ندمها وتريه اظافرها المقضومة حسرة على تفريطها به وانسياقها خلف صراعات قضت على حبهما دون أن يفهما السبب.، أو كما قالت أم كلثوم(أنا وأنت ظلمنا الحب بأدينا).
ونحن كنا نتفرج و نذرف الدموع لحال العاشقين التعيسين دون أن نعرف كيف يمكن انقاذ هذا الزواج!! ،وهل كان زواجهما صحيحا من الأساس وهو يستند على الحب وحده؟ !!
أم لابد من تناسق الأشياء الأخرى؟ عنوان المسلسل(الحب واشياءٌ اخرى)!!
تلك الأشياء الأخرى كانت انعدام التكافؤ المادي ،فهي من عائلة ملاعقها من الذهب وهو شاب فقير من حي شعبي يتمشى ويركل القطط في الشوارع لينفس عن غضبه وفراغ جيبه.
ولاتكافؤ ثقافي أو علمي لأنه كان يشعر بالضيق والانزعاج من كونه موسيقيا وهي ينادونها ب(الدكتورة)
ولا تكافؤ اجتماعي ففي مجتمعها أول شيء يفعلونه بعد الدش الساخن صباحا هو ارتداء أجمل الملابس والجلوس إلى مائدة الإفطار بكامل قيافتهم حيث من العار التجول خارج غرفة نومهم ببيجامة النوم .
في حين كان الموسيقي قد تعود في مجتمعه المتواضع أن يقضي طول النهار جالسا ببيجامته ويستقبل بها الضيوف دون أدنى حرج .
ظل هو يُضيًق عليها الخناق ويشعر وهو وسط مجتمعها كأنه بدوي دخل شاطئ عراة، ويريد منها التخلي عن كل مايربطها بحياتها القديمة وأن تبدأ معه سيرا على الأقدام بينما هي كانت قد قطعت مئات السنوات الضوئية ووصلت الى مستوى معيشي لايمكنها التآ
لف مع ماهو أدنى منه أبدا.
هي كانت تحاول تغييره، تنتقد بيجامته وبساطته وتحاول رفعه إلى طبقتها،وهو يجبرها على التغير لتصبح نسخة منه.
وكما قال توماس كيمبلس (يفضل أغلبية الناس أن يغيروا الآخرين بدل من تغيير أنفسهم).
وأخيرا لم يصمد الحب مع غياب (الأشياء الأخرى).
وكان زواجهما مهدد كمن يعيش على ظهر تمساح نائم سرعان مااستيقظ وابتلعه.
والأمثلة على انعدام التكافؤ الزوجي في السينما المصرية كثيرة ومنها فيلم(الشريدة)لنجلاء فتحي ومحمود ياسين والذي انتهى ايضا بنهاية غير منطقية ولم تعالج اصل المشكلة ،لأنها عالجتها بالندم ،وماذا يفعل الندم مع بقاء الفارق وعدم تخطيه أو تقبله فتغدو الحياة الزوجية بشعة كثوب متسول مرقع.!!
لكن ماذا يحدث للحب بعد الزواج؟!!
لمَ يختفي هكذا فجأة؟!!!
الحقيقة أن هذا الحب يسمى (الحب البيولوجي) وهو قطعاَ سينتهي عند جميع الأزواج بعد مرور ثمانية عشر شهرا على أعلى تقدير حسب عالمة الأنثروبولوجيا البيولوجية (هيلين فيشر Helen E. fisher).
لأنه انجذاب جسدي بفعل الدوبامين الذي يُفرز حين تلمع في عينيك رغبة الحصول على شيء ما .
والدوبامين عمره قصير،فسرعان ما يختفي بمجرد دخول الشيء في قائمة ممتلكاتك،تلتمع عينا الدوبامين ويتحفز لكل( جديد ) .
ومن وجهة نظر الدوبامين مانملكه غير مثير للإهتمام ، لذا مدمن سعادة الدوبامين يلجأ لعلاقات عاطفية متعددة ووقتية (زير نساء) أو خلبوص كبيرر أووي .
بعد أن ينتهي الحب البيولوجي تبدأ مرحلة اكتشاف الآخر
العيوب ،الإختلاف،عدم التكافؤ، وعدم فهم واستيعاب الإختلاف سيؤدي إلى( الخلاف).
عندها تبدأ (مرحلة الصراع) في الحياة الزوجية.
في هذه المرحلة أما أن يكون الزوجان أو أحدهما على قدر من النضج ليفهم الإختلاف ويتعاطف ويحل أو يحلان صراعاتهما بطريقة ناضجة لابعقل طفولي فيصلان لمرحلة( الثبات الزوجي) وهي مرحلة يقل فيها الدوبامين ويرتفع مستوى السيروتونين وهو هرمون الحب الطويل والمستقر والسعادة طويلة الأمد.
أي لابد أن نطور الحب بعد مرحلة الدوبامين إلى حب من نوع آخر ،تَفهُم ،تعاطف، تقبُل لإختلاف الآخر ، وهي مرحلة تكوين ناقلات عصبية تسمى ناقلات (الآن وال هنا )، أنت مع من تحب الآن هيا استمتع بحبه.
ويعيش هذا الحب على هرمونات السعادة طويلة الأمد الأوكسيتوسين oxytocin وهو لدى النساء أكثر فاعلية والفاسوبرسين vasopressin وهو الأكثر فاعلية عند الرجال.
ويسمى ال vasopressin هرمون الزوج الوفي .
لأنه مرتفع عند الرجل المستقر زوجيا.
أو سينتهيان إلى الطلاق حتما وأن يدفعا ثمن صمتهما لعقر ناقة صالح كما يقال، إن لم يطلبا مساعدة استشاري العلاقات الزوجية ليأخذ بيدهما كما يأخذ الدليل بيد التائه في البيداء ليعالج لهما مايمكن علاجه.
معيار التكافؤ في الحياة الزوجية هو قاعدة للغالبية لكن لايجب ان ننسى الفوارق الفردية بين الناس.
فهنالك من نجح في زواجه على الرغم من الفارق المادي والثقافي والاجتماعي وحتى الديني والسبب هو الوعي و النضج وتفهم اختلاف الآخر و الشخصية المكتفية بنفسها والممتلئة فلا تشعر بالتحسس والنقص من هذه الفوارق لأن علاقة الزوجان هي علاقة تكامل وليس تفاضل.
ولكن يبدو أن فيلسوفنا الكبير سقراط لم يك لديه وقت ليحاول الخروج من مرحلة الصراع الزوجي مع زوجته الجميلة التي تصغره بأعوام (زانتيب) التي يصفها التاريخ بسليطة اللسان وربما ظلمها المؤرخون بهذا الوصف، لا ندري ، لأنها وبشهادة تلامذته كانت تحب سقراط كثيرا وقد زارته في سجنه تنتحب وتشتكي مرارة فراقه.
كانت (زانتيب) تمقت جلسات النقاش لسقراط مع تلاميذه وتجادله كثيرا وشغلها الشاغل الأبناء واعمال المنزل.
وفي يوم كانت تنادي عليه ليساعدها في عمل منزلي صعب فتجاهلها مرارا واستمر يناقش طلابه المتحلقين حوله فحملت قدرا مملوءا بالماء وصبته فوق رأسه فانزعج الطلاب من هذا الفعل المهين بحق أستاذهم لكنهم تفاجؤا بسقراط يرفع بهدوء خصلة الشعر الوحيدة في رأسه الأصلع ويعيدها لمكانها وهو يقول بسخرية وفلسفة :
(بعد كل هذه الرعود لابد من هطول أمطارها) .
وهو صاحب المقولة الشهيرة(الحكمة في الصمت والسعادة في النوم)، وكان يقصد بهذه الحكمة طرق الهروب من أمام زوجته زانتيب وصراعاته معها.
لكن لماذا كانت ترعد وتزبد زوجتك يافيلسوفنا ياترى؟!!
ربما كانت تريد منك ان تقضي معها بعض الوقت كما تقضيه مع طلابك؟
أو ربما كانت تريد منك أن تستمع لثرثرتها ككل النساء ،تلك الثرثرة التي لايطيقها فيلسوف بالتأكيد!
وربما كانت بحاجة للدعم والمساندة وبعض كلمات الحب منك لتهدأ ويتحول اللسان السليط إلى لسان حلو يدلق الناعم من الكلام ويصب فوق رأسك الحنان والورد بدل الماء !!
لكنك كنت تسخر من مطرها وتشتعل هي من برودك ولامبالاتك!
ترى من كان تعساً في هذا الزواج بالفعل؟!!
سقراط بعقله الفلسفي الذي عجز عن فهم سر غضب زوجته أو ربما فهمه لكنه وجده اتفه من أن يسًخر له وقتا ليخمد ناره ؟!
أم زوجته الغاضبة كثيرة الجدال المحتارة بشؤون منزلها وأبنائها و التي لم تفهم ماالذي يحتاجه منها زوج مفكر عالم يبجله تلامذته ويتعلم منه الناس أسرار الدنيا ومافيها؟؟!!
ولن أنسى صديقتي الطبيبة وقصتها مع الشاب الميكانيكي الذي ترك والدته المريضة ترقد في سرير ردهة الطوارئ ووقف لصديقتي عند باب غرفة الطبيب المناوب حيث كانت تجلس خلف مكتبها في مناوبتها المسائية ، وهو يضع قدميه الكالحتين في نعل (أبو الأصبع قياس ٤٥ ) ويستر جسده بسروال واسع خاص بعمله في تصليح السيارات وفانيلا متسخة بشحم وزيت المركبات ،وبكل ثقة قال لها:
أنا اطلبك للزواج فماذا تقولين ،ها ولا تخافي أنا ساسمح لك بإكمال دراستك العليا إن شئت.
لم يفكر بالفارق الإجتماعي والثقافي والعلمي بل بشابة جميلة اعجبته وهو رجل جيبه منتفخ .
لكن بكل أدب كتمت صديقتي حسرتها وردت عليه بهدوء ماقبل العاصفة قائلة:
(اعتذر وأتمنى لك حياة أفضل لكني لاأريد هذا الزواج).
لكنها جاءتني بعدها وفجرت العاصفة في وجهي وهي تلطم خدها وتقص عليّ حكايتها مع الخطيب واثق الخطوة هذا و تقول :
(شفتي حظي المصخم ، فيتر السيارات خطبني لا وفوكاها لابس نعال أبو الأصبع أسود مثل حظي).