لا تبدو صحيحة كل تفاسير أوتفسيرات المفسرين لمعنى آلاء في الآية( فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) التي تكررت 14 مرة في سورة الرحمن . فتطبيقا للقاعدة الذهبية بعدم وجود ترادف في القرآن الكريم فإنه لا يجوز تفسير آلاء بالنعم . ذلك ان كلمة نعمة وردت في القرآن الكريم بمشتقاتها 138 مرة في 18 موقعا مختلفا . منها على سبيل المثال : ( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ – النحل 53 ) , وكذلك في الاية 67 من سورة العنكبوت : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ ) , وفي الآية 35 من سورة القمر:( أَفَبِٱلْبَٰطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ) . ثم في الآية 18 من سورة النحل:( وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ) . كما أن الفعل " تكذبان"الوارد في الآية لا يجوز تطبيقه على النعمة , ذلك أن نفي النعمة هو سترها بمعنى الكفر بها " وبنعمة الله يكفرون " . والاساس هو أن الكفر عكس الإيمان , أما التكذيب فهو عكس التصديق الذي يحتاج الى دليل مادي, فلايمكن ربط آلاء " بمعنى النعم " بالفعل " تكذبان " المقصود به الجن والانس في سورة الرحمن بوصفهما المكلفان بالعبادة : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ - الآية 56 الذاريات ) .
ولما كان الكفر هو عكس الايمان , فدعونا نتفق على أن الايمان يتحقق بالظن , والظن هو الاقرار بغير دليل : (مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ [المائدة:69]) . أو كما في قوله سبحانه : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ – الآية 46 من سورة البقرة ) . فالفعل يظنون هنا بمعنى يؤمنون بغير دليل . أما التصديق فستجده لدى هؤلاء الذين صدقهم الله وعده حقا وعاينوا في الجنة ذلك الثواب الوافر والعطاء العظيم : ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ ۖ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ – الآية 56 من سورة الزمر ) .
فنحن – المؤمنين – نؤمن , من دون دليل مادي , مثلا بوجود الجن , لكننا لا نصدقه , أما العلماء فهم لا يؤمنون بالجن لأنهم يحتاجون الى دليل مادي ملموس فالأمر المادي بالنسبة اليهم خاضع لقضية التصديق والتكذيب وليس الايمان والكفر .
وعليه فإن معنى آلاء هي الأدلة التي تؤكد صفات الالهية للرب الذي آمنا به – كمؤمنين , وآمن به العلماء من خلال دراستهم المتعمقة كرب خالق فاعل . فالقرآن الكريم يصف الله – سبحانه – بأنه رب السموات والأرض أي خالق ذلك ومدبره والحاكم والمتصرف فيه الذي لا معقب لحكمه : ( رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا – الآية 65 من سورة مريم ) . ولم يقل المولى عن ذاته إنه – سبحانه – إله السموات والأرض .
ولكن الله يدعونا إلى الايمان بالله وبرسوله والملائكة وهو كما أسلفنا ايمان مبني على الظن : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا -الآية 136 من سورة النساء ) . ولهذا فإن العلماء صدقوا بربوية الله الذي خلق السموات والارض بقواعد علمية لا شك فيها , لكنهم لم يصدقوا إلهيته التي تحتاج – بالنسبة إليهم – إلى أدلة مادية.
وهو ماتحقق في اثبات الربوبية بالفعل كما في الآية 53 من سورة فصلت : (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ) .
وكلمة إله هي من الفعل أله ويعني يلجأ الجميع إليه , والاسم منه الله , التي تعني استتر وارتفع وعلا علوا كبيرا , فالله مستتر . أما الرب فتعنى الذي يخلق ويفعل ويشرع . ( إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا- الآية 98 من سورة طه ) . أي انه لا معبود إلا وجهه الكريم، فلا يؤله، ولا يحب، ولا يرجى ولا يخاف، ولا يدعى إلا هو، لأنه الكامل الذي له الأسماء الحسنى، والصفات العلى، المحيط علمه بجميع الأشياء، الذي ما من نعمة بالعباد إلا منه، ولا يدفع السوء إلا هو، فلا إله إلا هو، ولا معبود سواه.وعندما نقول إله فهي التي تستخدم للعاقل من الانس والجن المكلف بالعبادة , أما صفة الربوبية فتستخدم للعاقل ولغير العاقل .
كل إله هو رب , والله تشمل كلا من الرب والإله . الرحمن هي صفة للرب الخالق . والعلماء صدقوا وجود الرب من خلال خلقه للسموات والارض وما بينهما . لذلك تساءل البرت اينشتاين قبل وفاته : لقد بحثت كثيرا في كيفية خلق الكون طبقا لهذه القواعد العلمية المعقدة , وفي النهاية أدركت ان من يتعمق في العلم سيصل يقينا الى حقيقة وجود روح مسيطرة على مختلف القوانين في الطبيعة . أما اسحق نيوتن فقال : ما لم نجد دليلا على وجود خالق الكون , فان أصبعي كاف لاثبات وجود هذا الخالق الذي لم يجعل بصمة في أي اصبع تشبه الأخرى في انسان بعينه فما بالنا بملايين البشر . أما العالم الفيلسوف انطوني فلو , فقال بعد اكتشافه الحمض النووي شديد الدقة والتعقيد :هذا الحمض النووي لا يمكن أن تكون خلقته الطبيع , وإنما هناك من خلق الطبيعة .
في الاسبوع المقبل إن كان في العمر بقية , نواصل التدبر في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه .