إنَّ ما يحصل في غزّة قد ساهم في تغيير تصوّراتنا لذواتنا، ولتمثّلاتنا للآخر، ولعلاقاتنا به. إنّه الإيذان بتدمير الثقة التي وضعناها في المجتمعات المسماة “متحضّرة” أو “متقدّمة”، وتهشيم الصورة التي ثَبتَت في مخيّلتنا عن منظومة كنا نحسَبُها تقوم على حقوق الإنسان. نقف، اليوم، على إفلاس النظام العالميّ، وعجزه عن تحقيق الحقّ والسلام.
تَبيّن بالكاشف، بعد غزّة 2023/2024، أنّ التّكنولوجيّات ليست مجرد أدوات نستعملها لنقل الواقع، بل هي في خدمة منظومة أخلاقيَّة تبيح “حجب المحتوى” الذي لا يتناسب مع الواقع كما يرادُ له أن يكون، لا كما هو في حدّ ذاته.
يقف الإعلام الرسمي الغربي عند حدّ التعتيم على ما يجري في غزة من أحداث. وقد اعتمد خطابًا متطرفًا تملؤُه الكراهية والخلط والتعميم. فهي بلاغة استعمارية إمبريالية، كنا نظنّ أنَّ البشرية قطعت شوطًا في الابتعاد عنها والانتهاء منها، بحثًا عن إنسان جديد شفّاف يجمع كلّ العالم المعوْلَم. إنّه التمكين لبلاغة تصوّر الصراع الدائر بين إسرائيل (الكيان المحتلّ للأراضي العربيّة) وبين الفلسطينيين، كأنّه صراع بين الحضارة والتّوحّش، بين قوى الديمقراطية وقوى تعادي الديمقراطية.
إنّ ما يصدر، اليوم، عن النّخب السياسيّة الغربيّة المتحكّمة في المشهد العالمي، يدعو إلى القلق والتشاؤم، ويَعِد بمزيدٍ من الدمار والإبادة. فالرموز عند النُّخبَة الغربية وعند النظريات الغربية نحن – فعلًا – خارج سياقها الدّلالي والرّمزي، وخارج حراكها ودورانها، وخارج معناها. إنّ ثقافاتهم ونظرياتهم، انتهازية ومزيَّفة، تنكشف وتتعرّى خلال الأزمات. ويتعرى، بمقتضاها، مثقَّفهم وعالمهم ومفكّرهم ومنظّرهم، وكأنه إنسان في عالم له حدوده المُقيَّسَة، التي لا تُفتح أبوابها لنا نحن من ندق أبوابهم، ونعتقد واهمين أننا منهم ومعهم. فنجد أنفسنا، مع كل أزمة يعيشها العالم، خارج الفلك الّذي يدور فيه مفكّرو الغرب وعلماؤه، ودون السياق الّذي يحيط بهم، وخارج المعنى الذي ينتجونه.
كيف تفاعل الإعلام الأجنبي مع موضوع حرب غزة؟ كيف عمل على الاستفادة منها ضمن منطق الحدث وكيف أخرجها وقدمها حسب رهانات الحقل الصحفي المضلّل؟
كيف تورّطت النُّخْبَة المُثَقَّفَة الغربيّة في إبادة الإنسان الفلسطيني بفعل التضليل الإعلامي؟
وهل موقف النُّخْبَة الغربية له أبعاد تاريخيّة وثقافيّة؟
وهل يبقون هم كما كانوا يتموضعون في عقولنا ونقتدي بهم علميًا ونظريًا وإنسانيًّا قبل غزة 2023/2024؟
فرضيّة الدراسة: تنطلق فرضيتنا الأساسيّة من الاعتقاد بأنّ ثمة علاقة بين تورّط النخبة المثقفة في إبادة الإنسان الفلسطيني عبر التضليل الإعلامي الأجنبي، علاقة قابلة للقياس والدراسة وأنّ الحصول على فهم ممكن لإرهاب دولة صهيونيّة لها مجموعة من الأسلحة أهمّها الإعلام.
نبحث في ثنائيّة العلاقة بين الإرهاب الصهيوني والإعلام كصناعة تتداخل فيه الكثير من الحلقات. وبذلك يمكن تشبيه الإعلام المعاصر بكونه سلاحًا ذا حدّين، فهو من جهة يؤدّي وظيفة إيجابيّة في منح الناس القدرة على التواصل والاتصال التفاعلي وتبادل الأخبار والمعلومات بكلّ يسر وسرعة وكفاءة الجماعة شعورًا بالانتماء والقوة والثقة، ومن جهة أخرى يؤدّي وظيفة انتشار وشيوع قيم العنف والتطرّف.
تتنوع استخدامات الذكاء الاصطناعي خلال الحروب، وتشمل مجموعة واسعة من التطبيقات التي تسهم في تعزيز القدرات العسكرية وتحسين الأداء الاستراتيجي في فترة الحرب وما بعدها، إذ يعمل الذكاء الاصطناعي في الحرب كعامل تمكين تحليلي ومُعطّل ومُضاعف للقوة؛ مما يؤثر في الأمن الدولي من خلال تحويل ميزان الدفاع الهجومي نحو الهجوم.
ويستخدم الذكاء الاصطناعي أيضا لمراقبة وتحليل منصات التواصل الاجتماعي لفهم آراء ومشاعر الجمهور تجاه الحرب والأحداث ذات الصلة، فيما يمكن أن يستخدم في تحليل النصوص والمقالات الإخبارية والصور والفيديوهات المتعلقة بالحرب واستخلاص المعلومات الرئيسية وأبرز الاتجاهات منها؛ مما يُساعد على فهم تأثير الأحداث العسكرية على الرأي العام، وكذا تحليل البيانات التاريخية للحروب والصراعات السابقة، واستخلاص دروس وتوقعات حول كيفية تطور ردود الأفعال العامة في حالات مُماثلة في المستقبل.
ويتم يستخدم الذكاء الاصطناعي في تحليل المخاطر، وتقدير الأضرار المحتملة للقرارات العسكرية؛ مما يساعد على اتخاذ القرارات الاستراتيجية بناءً على معرفة أكبر بالتأثيرات المحتملة لأي من هذه القرارات.
ويتم استخدام الذكاء الاصطناعي أيضا في تطوير وتحسين أنظمة الأسلحة الموجهة مثل: الطائرات من دون طيار والصواريخ الذكية؛ مما يزيد من دقتها وفاعليتها ويقلل من الخسائر البشرية والمدنية، ويستخدم أيضا في عمليات تحديد الأهداف وتصنيف المقاتلين، كما يُسهم في تحسين عمليات التواصل والتنسيق بين القوات المختلفة؛ مما يزيد من فعالية العمليات العسكرية ويقلل من الفوضى والارتباك، وكذلك هناك تطوير للروبوتات القاتلة والأسلحة ذاتية التشغيل التي قد تُشارك في العمليات القتالية الميدانية، بالإضافة إلى توظيف الذخائر ذاتية التحكم في العمليات العسكرية الدقيقة.
ويمكن أن يؤدي الذكاء الاصطناعي دوراً مهما في جهود تحقيق الاستقرار بعد الحرب؛ إذ يسهم في تقييم الأضرار وتحديد الأولويات في عمليات إعادة الإعمار من خلال تحليل صور وفيديوهات الأضرار الناجمة عن الحرب، وكذلك تعزيز جهود تنسيق العمليات الإنسانية عبر تحليل البيانات المتعلقة بالنازحين واللاجئين، وتحديد احتياجاتهم، وتعزيز الإصلاحات والمصالحة، وذلك من خلال تحليل البيانات السياسية والاجتماعية لتقديم التوجيهات والمقترحات لعمليات المصالحة بين الأطراف المتنازعة. ويمكن الإشارة إلى تطبيق لأنظمة الذكاء الاصطناعي بشكل عملي في الحروب التي اندلعت في الفترة الأخيرة.
وتعتمد أوكرانيا، بشكل مُتزايد على الذكاء الاصطناعي لتحقيق قدر من التفوق الميداني؛ إذ تسعى للتفوق في مجال الاستخبارات الجغرافية المكانية؛ إذ تستخدم أوكرانيا برنامج شركة “Palantir” لتحليل صور الأقمار الاصطناعية، والبيانات مفتوحة المصدر، ولقطات الطائرات من دون طيار، والتقارير من الأرض لتزويد القادة بالخيارات العسكرية، وهو يُعد البرنامج “المسؤول عن معظم الاستهدافات في أوكرانيا”.
وفي الوقت ذاته؛ استخدمت أوكرانيا بيانات الشركة في مشروعات تتجاوز بكثير الاستخبارات في ساحة المعركة، بما في ذلك جمع الأدلة على جرائم الحرب، وإزالة الألغام الأرضية، وإعادة توطين اللاجئين النازحين، كما أسهمت شركات التكنولوجيا الرئيسية مثل “مايكروسوفت”، و”أمازون”، و”غوغل”، و”ستارلينك” في حماية أوكرانيا من الهجمات الإلكترونية الروسية، وترحيل البيانات الحكومية المهمة إلى الخوادم السحابية للحفاظ عليها، وإبقاء البلاد على اتصال، وفي المقابل؛ زُعم أن موسكو نشرت ذخيرة من نوع كلاشينكوف “ZALA Aero KUB-BLA” التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، في حين استخدمت كييف طائرات من دون طيار من طراز”Bayraktar TB2″ تركية الصنع، والتي تتمتع ببعض القدرات المستقلة.
إنّ المعرفة التي أنجزها المثقف والمفكر والعالم الغربي هي لهم، وليس لنا نحن، ولم يعتبروننا عند صياغتها وإنجازها. المفاهيم وضعوها لهم وحدهم فقط. لذلك، فإنّ هذه المفاهيم لا تضعنا في الحسبان، ولا تنظر إلينا، ولا تشملنا. نحن نريد أن ندمج أنفسنا فيها بالقوة، نريد من هذه المفاهيم أن تحتوينا وتشملنا وتغطّينا، وتعطينا معناها.
معنى النُّخْبَة الغربية ليس معنانا، هو لا يعنينا، باختيار منهم، وليس باختيار منا. لقد دمّرونا بعسكرة المعرفة الغربية، التي تستعملنا لاستهلاكها دون أن تستوعبنا. فكلما حانت لحظة تطبيق المعنى علينا، نجد المعنى يتجاهلنا، ونجد المثقف والمفكر الغربي يتجاهلنا بالتأكيد. لم يسجّل الإعلام الغربي صوت الطرف الفلسطيني أو الحد الأدنى من تمثيله، وتحديدًا في الأيام الأولى، مع تصوير الصراع خارج سياق حقائق التاريخ والاحتلال. وهو ما جعل تلك الوسائل تتحول فجأة إلى منصات دعائية للآلة العسكرية الإسرائيلية المدمّرة.
دكتور القانون العام والاقتصاد الدولي
ومدير مركز المصريين للدراسات بمصر ومحكم دولي معتمد بمركز جنيف للتحكيم الدولي التجاري
وعضو ومحاضر بالمعهد العربي الأوربي للدراسات السياسية والاستراتيجية بفرنسا