كانت الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس الحالي جو بايدن سيئة للغاية في الانحياز لإسرائيل في حربها على غزة، لكن في ظل إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب سيكون الأمر أكثر سوءا، هكذا يتنبأ المحللون السياسيون في الشرق والغرب، بالنظر إلى سوابق ترامب في ولايته الأولى التي انقلب فيها على ثوابت السياسة الخارجية الأمريكية وقرارات الشرعية الدولية، حيث اعترف بضم القدس المحتلة لإسرائيل، واعتبارها العاصمة الموحدة الأبدية للدولة العبرية، ونقل السفارة الأمريكية إليها، وحرض الدول التابعة لأمريكا على أن تحذو حذوه، واعترف بضم هضبة الجولان السورية المحتلة لإسرائيل، ودعم توسيع المستوطنات في الضفة الغربية، ومارس ضغوطا هائلة لتطبيع العلاقات بين دول عربية وإسرائيل فيما سمي بـ (صفقة القرن) و(الاتفاقات الإبراهيمية)، ما أدى إلى إضعاف وتشتت الجبهة العربية الإسلامية المساندة للقضية الفلسطينية.
لهذا السبب استقبلت الشعوب العربية والإسلامية، فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية بكثير من التوجس والاشمئزاز، فالرجل لا يخفي عنصريته، ولا انحيازه لأشد الأجنحة تطرفا في إسرائيل، ولا يسعى إلى تغطية هذا الانحياز أو تجميله، ولا يعترف بمعاناة الشعب الفلسطيني، ولا بأي حق له في وطنه، ويصف نفسه بأنه “الأقوى على أعداء إسرائيل”، ويعارض إنهاء الحرب حتى يتحقق لإسرائيل النصر الذي تريده، وعندما سئل عن ذلك وجه كلامه إلى نتنياهو قائلا: “افعل ما يجب عليك أن تفعله”، وقد وصفه نتنياهو بأنه (الحليف الأفضل لإسرائيل، وعودته إلى البيت الأبيض هي أعظم عودة في تاريخ البشرية”.
وبصرف النظر عن الفروق الطفيفة، فإن الرئيس بايدن لم يكن عادلا أو منصفا في تعامله مع قضية الشعب الفلسطيني، ولم يقصر يوما في دعم إسرائيل بالمال والسلاح، بما في ذلك السلاح المحرم دوليا، وقدرت المساعدات العسكرية الأمريكية وحدها منذ اكتوبر2023 بقيمة 18 مليار دولار، وأعلن اتفاقه التام مع أهداف نتنياهو في القضاء على فصائل المقاومة (الإرهابية) واغتيال قادتها، واستخدم الفيتو والنفوذ الأمريكي لحماية إسرائيل في مجلس الأمن ومنظمات الأمم المتحدة، ومارس ضغوطا على محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية حتى لا يصدر عن أي منهما قرار بإدانة صريحة لجرائم نتنياهو وحكومته.
وحتى حين قدم مبادرة لوقف الحرب، وقال إنه اتفق على بنودها مع نتنياهو تراجع بسرعة وانسلخ منها، بعد أن أعلنت المقاومة الفلسطينية قبولها، وذلك لأن نتنياهو رفضها علنا، ووضعه في موقف حرج، لكنه لم يستطع إهانة حليفه، مكتفيا بالقول “إن نتنياهو لم يفعل ما يكفي لوقف الحرب واستعادة الرهائن”.
وتحدث بايدن كثيرا ونائبته كامالا هاريس، التي حلت محله وخسرت انتخابات 2024 الرئاسية، عن ضرورة وقف الحرب وتقديم مساعدات عاجلة لأهل غزة، وأهمية حل الدولتين، لكن هذا الكلام لم يترجم إلى واقع، وظل مجرد شعارات مخدرة، وعندما مارس بعض حلفاء أمريكا العرب ـ السعودية مثلا ـ ضغوطا دبلوماسية خجولة لإحراز تقدم في الاعتراف بالدولة الفلسطينية كان الرفض الأمريكي حاسما، ما أدى إلى قطع الطريق على المحاولة ووأدها في مهدها.
وسوف يكون ترامب أكثر فجاجة في دعم إسرائيل، وسيستخدم المكر والخداع لتصفية القضية الفلسطينية، والالتفاف على حقوق الشعب الفلسطيني، وسوف يتماهى مع الرؤية الإسرائيلية بأن القضاء على المقاومة (الإرهاب) هو مفتاح الحل لكل مشاكل الشرق الأوسط، والقضاء على المقاومة يستلزم أولا القضاء على إيران، حتى لاتكون هناك فرصة لصوت يطالب بحقوق الفلسطينيين، أو تقديم الدعم لهم، وهنا سيكون عليهم القبول بما تسمح إسرائيل لهم به، فيحل السلام في المنطقة.
القضية من وجهة نظر ترامب ونتنياهو هي إيران التي صنعت لها أذرعا باسم المقاومة، تأتمر بأمرها وتنفذ سياساتها، وليست القضية المقاومة التي تدعمها إيران، وهي موجودة بإيران وبدونها، وأثناء حملته الانتخابية نصح ترامب إسرائيل بأن: “تضرب الأسلحة النووية الإيرانية أولا، ثم يأتي الاهتمام بالباقي لاحقا”.
ويتوقع السفير الإسرائيلي السابق لدى واشنطن داني أيالون بأن “ترامب سيكون أكثر صرامة، بينما سيكون الإيرانيون أكثر ترددا، وسيسعى ترامب إلى تنيذ ما يريده الديمقراطيون والجمهوريون معا؛ وهو منع إيران من امتلاك أسلحة نووية وتوسيع دائرة التطبيع العربي مع إسرائيل، ولكن بطرق مختلفة، فقد كان اتجاه بايدن من أسفل إلى أعلى، أي وقف إطلاق النار في غزة ولبنان أولا ثم الذهاب إلى القضايا المتعلقة بإيران والتحالفات الإقليمية الجديدة، أما ترامب فاتجاهه من أعلى إلى أسفل، ما يعني الاشتباك مع طهران، ثم تأتي التفاصيل في شتى أرجاء الشرق الأوسط”.
لقد وعد ترامب ناخبيه بعدم الاشتراك في صراعات خارجية، وإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا باستدعاء البلدين إلى مائدة المفاوضات، لكنه حين تحدث عن إنهاء الحرب في غزة ولبنان قال إن الحل في قمع إيران، فهو لايرى قضية لشعب يناضل من أجل حريته، ولا يرى أرضا محتلة، ولا مقدسات منتهكة، ولا يعترف بوطن اسمه فلسطين.
تقول صحيفة (الإيكونوميست) البريطانية في افتتاحيتها يوم الجمعة الماضية (8/11/2024) إن “ولاية ترامب الثانية ستحدث تحولا كبيرا في السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط، وستكون البداية بمنح إسرائيل حرية كاملة لاستمرار الحرب في غزة ولبنان، دون ضغوط أمريكية مزعجة لوقف إطلاق النار، وذلك على الرغم من أن محاولات بايدن في هذا الصدد لم تكن ذات تأثير يذكر”.
لكل هذا فقد الفلسطينيون، والعرب عموما، الأمل في أي وعد أمريكي لإقامة الدولة الفلسطينية، وفي أي دعم أمريكي لقضيتهم المركزية، تستوي في ذلك إدارة بايدن الذاهبة وإدارة ترامب الآتية، وأي رهان على أمريكا رهان فاسد زائف، والرهان الوحيد الكفيل بإبقاء القضية الفلسطينية على قيد الحياة هو الرهان على المقاومة، وتأكيد شرعيتها ودعمها، فحين ينكرك العالم عليك أن تثق بنفسك وبحقك، وتعتمد على قدراتك لتقاوم وتنتصر.