هل من الأولى أن نتداول المعلوم ونرسخه أو نزيد من قيمة المجهول ونؤكده؟ الجواب ليس سهلا ولا ميسورا لأن الإجابة عن هذا السؤال تنطلق من طبيعة بيئة التعلم. وبيئات التعلم ليست وقفا على ما يدور داخل الفصل أو القاعة ولكنها جزء أصيل من بيئة اجتماعية واسعة تحرض على السؤال والشك ورفض المسلمات، أو تستمريء الاكتفاء بما هو معلوم ومشهود ومريح ومستقر على طريقة هكذا وجدنا آباءنا. وتاريخ العلم يخبرنا أن الطفرات العلمية الكبرى كانت وليدة قلق عظيم وشك دائم فيما هو مستقر وميسور وكانت نتيجة صدام عنيف بين العلم المريح والمجهول المؤلم. وكبار العلماء والمفكرين ما ظنوا يوما أنهم كبار ولا أن علمهم فيه الكفاية، ولا أنهم ليسوا في حاجة إلى علم الآخرين. فالجاحظ الاعتزالي يتلقى عن أستاذه النظام أن العلم ضنين إن أعطيته كلك، أعطاك بعضه، وأن السبيل إلى اكتساب العلم هو السؤال المنبعث من الدهشة المماثلة لدهشة الطفل حين تلقيه الأشياء من حوله.
هذا التوجه المنهجي العظيم مبدأ أساسي لدى الكبار ممن علموا البشرية من أنبياء وفلاسفة ومصلحين وعلماء أفذاذ. لذلك لانجد لدى هؤلاء اختلافا في المبادئ الكلية الكبرى، ونجده بعد ذلك في توظيف هذه المباديء وطرق الاستنباط والاستنتاج. كما لا نجد تعارضا حقيقيا عندهم بين الظاهر والباطن أو بين الدين والعلم أو بين العقل والقلب. ومن ذلك أن موسى عليه السلام قد آتاه الله علم النبوة وجعله من أولى العزم من الرسل ومع ذلك لم ينبهر موسى بما عنده ولم يستنكف أن يطلب العلم المختلف أو المجهول بالنسبة له من عبد صالح اسمه الخضر ” آتيناه من لدنا علما ” علم موسى وعلم الخضر مصدرهما واحد ولكنهما مختلفان هذا علم لدني وهذا علم الوحي والرسالة. وموسى يحتاج إلى الخضر أي إلى علمه اللدني وهذا الاحتياج يلزمه الصحبة والصحبة بلزمها الصبر والصبر يلزمه التسليم بالظاهر وهو أمر صعب بل شديد الصعوبة ” وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا” وإعلان الصبر والصحبة يلزمه الاختبار والتجربة ” لا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا” والظاهر هنا هو التجربة وهي خرق السفينة مع أنها لمساكين، وإقامة الجدار مع أن القرية لم تطعم موسى ولا الخضر، وقتل الطفل مع أن القتل محرم. ومن الطبيعي أن يجأر موسى بالسؤال ولا يلزم الصبر لأن ما يحدث فوق احتمال العقل وقدرته على التفسير. وهذه الاختبارات الثلاثة لها ظاهر معلوم لكنه غير مفهوم وباطن مجهول ولكنه يفسر ما هو معلوم. وهذا يدفعنا إلى القول بأن علم الحواس وما تدركه لا يكفي وأن التجربة ليست السبيل الوحيد للمعرفة وأن ما نجنيه وراءها من معرفة محدود بحدود المادة وما تتضمنه من خصائص. لذا ينبغي أن ننصت إلى المعرفة الذاتية أو المعرفة القلبية التي لا تتحقق إلا بعد مجاهدة طويلة وتدريب شاق وصبر على مكارها وتحمل لمشاق الطريق. وهذا ما لمسناه من سؤال الخضر لموسى ” ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ” إلى أن وصل به الحال إلى ” هذا فراق بيني وبينك “
