كنت طبيبا مقيما بمستشفى باب الشعرية الجامعي في أوائل الثمانينات، في أوج أيام الشباب الغض، وجهاد بناء الحاضر المستقبل. وأشهد أنني كنت طبيبا ملتزما غاية الالتزام، ولي غرفتي مثل بقية الزملاء في سكن الأطباء داخل حرم المستشفى، وليس من زوغان كيفما كان ذلك، وليس من ذهاب للمنزل إلا يوما واحدا كل أسبوع أو أسبوعين حسب مقتضيات العمل في مستشفى لها خصوصية تميزها عن المستشفيات الأخرى، فقد كانت في حي شعبي يعج بالنشاط والحركة بأصحاب المهن الدنيا والورش والدكاكين، ولم يكن يمر يوم واحد دون وارد جيد من نتائج الخناقات والمعارك بمختلف درجاتها التي تبدأ بالضرب دون عاهات إلى الشوم والسواطير وما في مستوى ذلك!!
وكان رمضان في المستشفى أيضا مختلفا فلم يكن هناك نشاط حقيقي إلا أثناء وبعد الإفطار، وكنا ننتظر ذلك في السكن فنفطر في عجالة مستعدين للاستجابة لاستدعاء غرفة الطوارئ المعتاد لتخصصات الخناقات والمصائب وحوادث السيارات وانفجار أنابيب البوتاجاز، وهي غالبا تخصصات الجراحة العامة والعظام وجراحة المخ والأعصاب، وأحيانا جراحة التجميل لحالات الحروق الجسيمة، حيث كان الماء المغلي والزيت على الوجوه أحيانا هو الحاسم في بعض المعارك الهامة !!
ونادرا في رمضان ما كان يمر يوم دون ذلك النشاط والأحداث في وقت الذروة وهو ما حول أذان المغرب، لتبدأ سهرتنا المعتادة في غرف العمليات في محاولات مستميتة لإصلاح ما أفسده البشر في البشر. لذلك كانت إدارة المستشفى كريمة معنا كرما زائدا في رمضان حيث كانت مائدة الإفطار في سكن الأطباء عامرة (بجد) بكل ما لذ وطاب، وفي مقدمة ذلك فرخة كاملة لكل طبيب، وموزة من اللحم، أي والله فرخة كاملة وموزه، وهو ما لم يكن باستطاعة معظم الأطباء الانتهاء منه، فكنا نترك معظم ذلك بعد الانتهاء من الإفطار للعاملات المسؤولات عن سكن الأطباء، حتى أنني سمعت في أحدى المرات أم سعاد تقول (ما تاكلوا يا دكاتره، أنا عندي العيال تخنوا !!). وكانت هناك مجموعة من الزملاء الذين يضرب بهم المثل في الإقدام والشجاعة وخاصة الأبطال من أهل الريف المصري العامر دائما بالفطائر المشلتته والسمن البلدي، الذين لم يكن يتبقى من طعامهم شيء، ولم تر منهم أم سعاد أو مساعدتها أم أحمد فتفوته من بقايا الإفطار!
وأذكر مئات الحواديت التي حدثت في رمضان في مستشفى باب الشعرية الجامعي العامرة، ومن ذلك زيارات الرجل المحترم العصامي سيد بك جلال الذي أنشأ المستشفى أيام الملكية في عام 1945 هدية للحي، وتبرع بها للدولة حتى آلت لجامعة الأزهر في عام 1974. وكان حريصا على تلبية احتياجات المستشفى من المعدات والآلات والمستلزمات وغير ذلك مما لا تطيقه ميزانية المستشفى، غير أنه في أواخر أيامه أصبح يمتنع تماما عن إعطاء إدارة المستشفى أية أموال سائلة (كاش) بعد أحداث جسام في هذا الشأن ! ولكن كان يطلب كشفا بالمطلوب وهو يشتريه ويقوم بتوريده للمستشفى بنفسه!! وحكاية العصامي سيد جلال حدوتة لوحدها.
ولا تنتهي الحكايات عن المرضى وأسرهم في أرجاء المستشفى، وصراخ خراب البيوت الذي يختلط مع زغاريد الشفاء، ونحن بين هذا وذاك في مهنتنا العجيبة نرى الحياة على حقيقتها ومازلنا في مقتبل الحياة، كما نرى الموت أيضا كل يوم…. كل يوم …
وكانت المنطقة أمام باب المستشفى في رمضان تزدحم بباعة العرقسوس والتمر هندي وعائلتهم الشهيرة من المشروبات الرمضانية، وكذلك عربات سندوتشات الكفته والكبدة والمخ واللسان، وكان أصحاب هذه العربات معروفين بالإسم ويوردون يوميا للعاملين والممرضات وبعض الأطباء بل والمرضى ما تيسر من خيراتهم اللذيذة المميزة، والتي لا تجدها في مكان آخر إلا فيما ندر، إلى أن حدث ما لم يكن في الحسبان والذي أصبح مادة للتندر والفكاهة والضحك الهائل في كل أنحاء المستشفى، وهو قيام الشرطة بالقبض على عنتر صاحب أشهر وأقدم عربة مخ وكبده في باب الشعرية، ومقره الدائم أمام الباب الرئيسي للمستشفى، وتناهى لأسماعنا أن سبب القبض عليه هو استعماله لمخ وكبدة الحمير والكلاب في سندوتشاته الرائعة والتي كان الزحام عليها لا يتوقف!!
وليس هذا هو العجيب، وإنما العجيب بل والعجب العجاب، أن عنتر ظهر بعد أشهر قليلة بعربته في مكانه المعتاد أمام المستشفى، وعاد الزحام من حوله من جديد، وكأن شيئا لم يكن !!!
وصادف أن مررت أمام مستشفى باب الشعرية منذ سنوات قليلة فلم أتعرف عليها، فلم تعد هناك المستشفى التي كنت أعرفها أو سكن الأطباء أو حوش المستشفى الذي كنت أركن سيارتي فيه، ولكن مباني شاهقة كحائط السد تحجب كل شيء، ولا مكان للسير على الأقدام من شدة الزحام!
خسارة يا زمن المستشفى الجميلة ذات الطابقين فقط، مستشفى أيام الشباب …… وعنتر….
وكم في رمضان من حكايات وعبر وذكريات …..
