من زاوية علمية تربوية تكمن ماهية الاستنتاج في مقدرة الفرد نحو الوصول إلى نتائج استخلصها من حقائق علمية قدمت له، ثم ارتأى بناء عن ملاحظته، وتدقيقه، وتفكره، وتفكيره، أن يعطي، أو يقدم وجهة نظره الخاصة، قد يدعم ذلك بشاهد، أو دليل، وقد يبدى مبررات منطقية لديه، كما تمارس مهارة الاستنتاج في خضم مقترحات تقدم له؛ حيث يخرج بأسباب، أو مسببات تعزز ما يصل إليه، وتعد نقطة انطلاق لمراحل تفكير أكثر تقدمًا.
صقل مهارة الاستنتاج لدى الأبناء أضحى أمرًا مهمًا؛ إذ تؤدي الاستخلاصات التي يصل إليها الفرد إلى أن يدرك ماهية التكامل المعلوماتي، جراء الربط الوظيفي للحقائق التي يستقرئ ثناياها ومكونها، وهنا نتحدث عن الطريقة المثلى لاكتساب الخبرة سواءً أكانت حياتية، أم تعليميةً، أم وظيفيةً، في مجالٍ بعينه؛ فنحن نعي أن المعارف العميقة في صورتها الصحيحة تساعد في أن يمارس، أو يؤدي من يقوم بالمهمة المرتبطة بهذه المعارف بشكل سليم، بل ويحرز تقدمًا نحو مستويات الاتقان، ويتشكل لديه الاتجاه الإيجابي حيال ما يفعله.
نود الإشارة إلى أن تنمية مهارة الاستنتاج يسهم بصورةٍ إيجابيةٍ في تنمية مقدرة الفرد على التنبؤ، ومن ثم تتنامى لديه القدرة على رسم سيناريوهات استشرافية نحو المستقبل، وهذا بالطبع يؤكد أهمية فلسفة الارتكاز على الشاهد والدليل؛ كي نضمن توافر الضوابط التي تؤكد على سلامة مسارات التفكير، ونتجنب جنوحها عن الطريق القويم، كما يساعد على صناعة، واتخاذ قرارات تقوم على الدراسة والتأمل، وتستند على معايير متفق عليها.
روعة الاستنتاج تتضح في تلون الاحتمالات التي نتلقاها من الأبناء عند قدح أذهانهم؛ فنرصد مزيد من الاطروحات التي تتمخض عن الموقف، أو القضية، أو المشكلة، محل التناول، أو الاهتمام، وهنا تتعالى الآمال والطموحات، نحو آفاق ورؤى جديدة لقضايا ظن البعض أنها أغلقت، وأن التفكير حولها بات غير مجديًا، وهذا ما يؤكد أن المنظور المتكامل والمتواصل في التفكير أفضل من محدوديته.
السؤال الذي يدور في الوجدان الآن: كيف نعلم أبناءنا المقدرة على الاستنتاج؟، وللإجابة عن هذا السؤال علينا أن نلقي الضوء على ما تحويه مهارة الاستنتاج؛ فهناك النتيجة، وتمثل الهدف من ممارسة مهارة الاستنتاج، والمتمثلة في معلومة محددة، أو عدة معلومات، قد تشكل حقائق جديدة في بنية المتعلم المعرفية؛ لذا يجب أن تتفق أو تتناغم مع صحيح العلم ومبادئه وقواعده.
وتحوي مهارة الاستنتاج مقدرة الفرد على ترتيب وتصنيف المعلومات، وتحديد العلاقات بينها، والتوصل إلى النتيجة المرتقبة، وهذا في جملته نسميه بالاستخلاص، وبالطبع لا ينفك ذلك عن ملاحظة تدرك بالحواس يمكن تكرارها، والبرهنة على صحة حدوثها في الظروف المناسبة، وهو ما يعرف لدينا بالحقيقة العلمية؛ فلا مجال لأطروحات لا تتسق مع ما تمت الإشارة إليه؛ ومن ثم نغلق أبواب اللامنطق والتكهن والخيال غير المنضبط.
تحليل المعلومات بغرض حصر الحقائق المتضمنة بها، يتيح للفرد أن يستكشف العلاقة بينها وبين الاستنتاجات المقترحة، أو تحديد النتيجة المرتبطة بذلك، دون الاستنتاجات المقترحة، وهذا ما نصفه بملاحظة المتدرب العميقة، ولا ضير من أن نقدم مقترحات له؛ كي يكتسب، أو يعزز، أو ينمي مهارة الاستنتاج لديه؛ فندرك أن هنالك أنماطًا متعددة لهذه المهارة؛ حيث تتمثل في الاستنتاج الصحيح، والاستنتاج الأقرب للصحيح، وصعوبة الاستنتاج، والاستنتاج الأقرب للخطأ، والاستنتاج الخطأ.
ونعرج إلى أن الاستنتاج الصحيح مرتبط بقوة بالحقائق المقدمة أو المعطاة للمتدرب وقطعاً صحيح، وأن الاستنتاج الأقرب للصحيح: يعبر عن احتمال صحته أكبر من احتمال خطئه، في ضوء الحقائق المقدمة، وأن صعوبة الاستنتاج: يؤكد أن الحقائق المقدمة لا توضح ما إذا كان الاستنتاج صحيحاً أم خطأً؛ حيث تعد المعلومات ناقصة، وأن الاستنتاج الأقرب للخطأ: يشير إلى احتمال خطئه أكبر من احتمال صحته، في ضوء الحقائق المقدمة أو المعطاة، وأن الاستنتاج الخطأ: غير مرتبط بالحقائق المقدمة أو المعطاة للمتدرب وقطعاً خطأ.
تعالوا بنا لمثال، يظهر كيف ندرب الأبناء على مهارة الاستنتاج؛ فإذا ما أتينا بمخبار مدرج، وماء، وكحول، ومعيار لتحديد المقادير من تلك السوائل، ووجهنا المتدرب أن يضع (270) سم3 من الماء في المخبار المدرج، ثم طلبنا منه إضافة (230) سم3 من الكحول على الماء بالمخبار المدرج، ووجهناه لقراءة حجم المخلوط (الماء + الكحول)؛ حينئذ سيجده (488) سم3، وهنا يتساءل المدرب، ما السبب في نقص القراءة عن (500) سم3؟، وهذا يستلزم التفكير ليستنتج المتدرب السبب.
وهنا يتوقع أن يعطي المتدرب نتيجة منطقية من وجهة نظره؛ فقد يقول أن كمية الماء أكبر من كمية الكحول، وهذا (الأقرب للصحيح)؛ لأن كمية الماء الكبيرة تتداخل جزيئاتها مع جزيئات الكحول، وقد يقول أنه تبخرت كمية من الكحول بعد فترة زمنية صغيرة، وهذا (الأقرب للخطأ)؛ لأن عملية الخلط تمنع حدوث التبخر، وقد يقول أن قاعدة المخبار امتصت جزءاً من المخلوط، وهذا (خطأ)؛ لأن الزجاج لا يمتص السوائل، وقد يقول إن إضافة الكحول على الماء نتج عنها كمية من الفقاعات الغازية، وهذا يمثل (صعوبة الاستنتاج)؛ لأن المعلومات منقوصة ولا يوجد دليل عليها، وقد يستنتج أن تواجد فراغات بين جزيئات الماء انتشرت فيها بعض جزيئات الكحول، وتلك تمثل النتيجة (صحيح)؛ لأن هذا يستخلص من الحقائق المعطاة، المتمثلة في الملاحظة المباشرة للإجراءات العملية ويتسق مع نتائجها.
وبغض النظر عن النتيجة التي يصل إليها الفرد؛ فهناك ضرورة للمناقشة والحوار معه؛ كي نحدد السبب في سياقه الصحيح، وهذا يدعونا إلى نخطط أنشطة مقصودة، تسمح للفرد أن يمارس مهارة الاستنتاج بصورة وظيفية في العديد من المجالات النوعية.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.
أستاذ ورئيس قسم المناهج وطرق التدريس
كلية التربية بنين بالقاهرة _ جامعة الأزهر