كثُرَ غيرِ المُكتَرثينَ بالشأن القضائي في واقعنا الغَوغّائي، ولا يُخالجني شك البتة في أنّ كثيراً من معشر القضاة، يَستعجمون أبجديات امتهان التكليف قبل التشريف القضّائي، وحسبنا وأركانه ونصوصه، واجتهاداته وإسقاطاته، ونظراته وعبراته، وعندما يُصبح التقاضي بين العباد مغرّماً ومغنّماً، وحينما يُوسّد هذا الأمر لغير أهله عمداً مُتعَمداً، فماذا بعد ذلك إلا دنو الساعة موعداً…
ولو علم أحدهم هول هذا الأمر حالاً واستقبالاً، لتبرأ من كليته جُملةً وتفصيلاً…
فعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( يُدعى بالقَاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في عمره ) رواه ابن حبان، وأخرجه البيهقي ولفظه ( في تمرةٍ )..
والحق أن أقزاماً وجدوا أنفسهم بين عشية وضحاها على منصات القضاء، بفعل موبقات البيروقراطية، واختراق حُجب الشفافية والأهلية، ومثلما ذاعت عبارة ياما في الحبس مظاليم، فبين ساحات المحاكم قُضاة جُهال مجَاهِيل…
والقضاءُ أمرهُ جللٍ على إطلاقه، مهما عظم قدر القاضي وتفردت ملكاته، في استخلاص الحُجة وتبيان المحجة، مصداقاً لما رواه أبوداود والترمذي من حديث النبي صلى الله عليه وسلم [ من وُليّ القضاء فقد ذُبح بغير سكين ] … ومع ذلك فاجتهاد القاضي فريضة مُحكمة، وفضيلة مندوبة، لعله يُصيب مرام الصواب، فيظفر بحُلة القضاة الناجين يوم القيامة، قاضٍ يقضي بالحق فهو في الجنة.. بخلاف صنفين مذمومين إلى النار: أحدهما يستنكف عن الحق فيزيغ في الحكم بهواه، فيجعل الحق باطلاً والباطل حقاً، فذاك في النار، وآخر يقضي بجهل مُركب فهو في النار…
والعمل القضّائي لا يستقيمُ له ظلٌ ولا يَستَمطر بالوابل والطل، إلا بأناسٍ عدولٍ، قد استوفوا في نواحيهم الاستقلال التام عن ميادين الناس وزمجرير التأثير، فضلاً عن تمتعهم بأهلية التقاضي، تلك الأهلية التي تنضبط ابتداءً وانتهاءً بدراية تامة عن أحكام الشريعة الإسلامية بنصوصها الغراء، ليُصبح القاضي نائباً عن الله في الأرض [ وَاللهُ يَقضِي بِالحّق ] غافر ٢٠..
ومعنى القضاء هو إقامة سنام العدل، مع قطع النظر عن أين يصب هذا العدل، لعموم قوله تعالى [ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58..
ومغزى القضاء التجرد للحق الأبلج الذي لا ينتطح فيه عنزان، وعدم التمييع والترقيع لتبديل الحق باطل والباطل حق [ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) النساء..
[هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) النساء
[ وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (112) النساء
ومن نافلة القول أن يكون القاضي ذا فراسة محمودةٍ لئلا يُمكر به، أو أن يتلاعب به محامٍ مغمورٍ مغرور، يُحرف الكلم عن مواضعه بشهود زورٍ يشهدون ولا يُستشهدون، وأن يبذل القاضي قُصارى جُهدهِ في مجابهة موجات الغرق بقَاربٍ مكينٍ لأجل بلوغ لُب اليقين…
ولا يقوم القاضي بالقضاء بين الخصوم إلا في تحصفٍ وسكينةٍ ووقار، ليفصل في قضيته بعدلٍ واقتدار، لقوله صلى الله عليه وسلم [ لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان ] البُخاري ..
وللقاضي العدل مندوحةَ الاجتهاد في القضايا المكتنفة الغموض، فمتى أصاب اجتهاده كبد الحقيقة، كان له أجران: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة… وإذا اجتهد وأخطأ، فله أجر الاجتهاد…
وفي ذلك يُعطي النبي صلى الله عليه وسلم دعامة راسية، لما جاءه رجلان خصمان، كل منهما يشتكي الآخر، فقال صلى الله عليه وسلم:
إنَّما أنا بَشَرٌ وإنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ أنْ يَكونَ ألْحَنَ بحُجَّتِهِ مِن بَعْضٍ، فأقْضِي علَى نَحْوِ ما أسْمَعُ، فمَن قَضَيْتُ له مِن حَقِّ أخِيهِ شيئًا، فلا يَأْخُذْهُ فإنَّما أقْطَعُ له قِطْعَةً مِنَ النَّارِ…