ظهرت فكرة وجود تشريع دولي للعمل في فجر القرن التاسع عشر وعلى مدى هذا القرن تعددت المبادرات الرامية إلى إنشاء التشريع الدولي مما أدى إلى ترسخ الفكرة وتعمقها في عقول المفكرين والاقتصاديين والنقابيين، وزاد من أهميتها انتشار الثورة الصناعية وما صاحبها من وقوع الكثير من المآسي العمالية بسبب ما اتسمت به ظروف العمل من ظلم واجحاف لحقوق العمال، وما خلفّه ذلك من مشاعر السخط والحرمان لديهم. وقد ترتب على ذلك أن أصبح الاتجاه العام للتشريعات الاجتماعية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر يرمى إلى تقييد السلطة لأصحاب العمل بموجب فرض الإجراءات الآمرة، وتطور الحماية القانونية لمختلف جوانب العمل.
ومضى القرن التاسع عشر وطويت معه صفحات كثيرة، وجاء القرن العشرون الذي شهد في عقده الثاني إنشاء منظمة العمل الدولية، وواجه في الثلاثينات منه أزمة اقتصادية عالمية طاحنة عُرفت بـ (الكساد الاقتصادي الكبير).
كما شهد هذا القرن أيضا وقوع حربين عالميتين خلّفتا دمارا هائلا في كثير من البلدان، فضلا عن عشرات الملايين من القتلى ومشوهي الحرب.
لقد فرضت هذه التطورات العالمية تحديات كثيرة على منظمة العمل الدولية والتي لم تزل حديثة العهد، وكان عليها أن تتعامل معها، فاعتمدت عددا كبيرا من معايير العمل الدولية ذات الصلة بالموضوعات الملحة بظروف العمل والتشغيل، والوقاية من حوادث العمل والتعويض عن إصابات العمل والأمراض المهنية، والحماية الاجتماعية، وحماية النساء، والأحداث، وقضايا المعاقين ومشوهي الحرب، وإلغاء العمل الجبرى، والمساواة وعدم التمييز في الاستخدام ومباشرة المهن وغيرها.
كما أصدر مؤتمر العمل الدولي عددا من القرارات تتعلق بصفة أساسية، بالتدابير التي تتخذ لمواجهة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والعمالية المترتبة على انتهاء العمليات الحربية.
وعلى مدى قرن من الزمان (1919 – 2019) استطاعت منظمة العمل الدولية أن تعتمد عدد (190) اتفاقية و(206) توصية، أصبحت تكّون ما يسمى بـ “المدونة الدولية للعمل” فضلا عن الإشراف على تطبيق هذه الاتفاقيات والتوصيات.
وليس الغرض من إعداد هذه الدراسة، هو دراسة موضوعات هذه الاتفاقيات والتوصيات على نحو تفصيلي، وإنما الوقوف على الأحكام الأساسية للدور التشريعي لمنظمة العمل الدولية، باعتبار أن ما يصدر عن المنظمة من اتفاقيات وتوصيات، تشكل المصادر الأصلية للقانون الدولي للعمل.
وإلى جانب هذه المصادر الأصلية للقانون الدولي للعمل، توجد مصادر ثانوية لهذا القانون تتمثل في الاتفاقيات والوثائق والقرارات التي تصدر عن مؤتمرات حكومية، وكذلك النصوص والقواعد التي تعالج مسائل العمل على النطاقين العالمي (في إطار منظمة الامم المتحدة) والإقليمي (في إطار المنظمات الحكومية، مثل النظام الإقليمي الأوروبي، والنظام الإقليمي الأمريكي، والنظام الإقليمي الأفريقي، ومنظمة العمل العربية).
وفي ضوء ما تقدم، نقسم هذه الدراسة إلى أربعة أبوب، حيث نتناول في الباب الأول، المصادر الأصلية للقانون الدولي للعمل، والتي تتمثل في اتفاقيات وتوصيات العمل الدولية والمبادئ الأساسية التي أرساها دستور منظمة العمل الدولية، وإعلان فيلادلفيا الصادر عام 1944، والإعلانات الأخرى الصادرة عن منظمة العمل الدولية (إعلان المبادئ والحقوق الأساسية في العمل عام 1998، وإعلان العدالة الاجتماعية في ظل عولمة عادلة عام 2008، وإعلان المئوية عام 2019).
ونعرض في الباب الثاني لمعايير العمل الصادرة في إطار منظومة الأمم المتحدة، ونعقد الباب الثالث لمعايير العمل الصادرة في إطار المنظمات الإقليمية، أما الباب الرابع والأخير فسوف نخصصه لتطبيق القانون الدولي للعمل.
وفي النهاية، فقد استهدفنا من إعداد هذه الدراسة، سد حاجة ماسة في البحوث العلمية في مجال القانون الدولي للعمل، وإذا كانت هذه الغاية لا يتسنى تحقيقها إلا بتضافر جهود الباحثين عليها، وتقصر عن تحقيقها جهود أحدهم مهما صمت عزيمته، فحسبنا أن نكون قد وضعنا لبنة متواضعة في بناء نرجو أن يصير شامخا مما يساهم في تحقيق الاستقرار العمالي، وبلوغ مستويات عمل متقدمة في دولنا العربية .
وقد اتضح لنا من هذه الدراسة أنه إذا كانت التطورات العالمية في النصف الأول من القرن العشرين قد أدت إلى تحول في مفهوم القانون الدولي والانتقال به من مجرد قانون يحكم العلاقة بين عدد محدود من الدول إلى قانون يحكم وينظم المجتمع الدولي المعاصر، فقد أدت هذه التطورات أيضا إلى تزايد عدد الهيئات والمنظمات الدولية – ومنها منظمة العمل الدولية – وأصبحت هذه المنظمات تباشر جانبا من موضوعات القانون الدولي وبدأت تستقل بذاتها كفروع متميزة في إطاره لها ذاتيتها وفلسفتها الخاصة وغايتها المحددة، ومنها فرع القانون الدولي للعمل. كما أن حصاد التنظيم الدولي المعاصر يكشف بوضوح أن عددا كبيرا من هذه المنظمات قد ساهم في إرساء قواعد جديدة للقانون الدولي العام كمصدر مباشر لهذا القانون.
وقد ظهر جليا أثر هذه التطورات في موقف القضاء الدولي الذي جاء دوره معززا ومساندا للدور الذي تقوم به هذه المنظمات في مباشره مهامها في المجالات الدولية المختلفة ودعم القرارات الصادرة عنها. وقد تمثل ذلك في العديد من الأحكام والآراء الاستشارية الصادرة سواء عن المحكمة الدائمة للعدل الدولي، أو عن محكمة العدل الدولية.
ولم يكن الفقه الدولي بمعزل عن موقف القضاء الدولي، حيث جاء دوره ممهدا ومواكبا لاتجاه القضاء بشأن الدور الذي تقوم به المنظمات الدولية، خاصة مساهمتها في إرساء قواعد القانون الدولي.
ولقد اكتست منظمة العمل الدولية طبيعة خاصة ليس فقط لظروف وأسبقية إنشائها في عام 1919، ولكن لخصوصية تكوينها الثلاثي. وقد أظهرت المنظمة خلال تاريخها الكثير من الروح الابتكارية والقدرة الاستثنائية على التكيف مع الظروف المتغيرة، وظلت على الدوام عينا ساهرة على المحافظة على القيّم والمبادئ والأهداف التي تأسست من أجلها والتي أعيد التأكيد عليها في الاحتفال بفئويتها عام 2019.
وفى ضوء ما تقدم، فقد تناولنا في هذه الدراسة الجوانب المختلفة المتعلقة بالقانون الدولي للعمل، وبوجه خاص المبادرات الأولى الرامية لوضع تشريع دولي للعمل ومصادره الأصلية والثانوية، وأسباب نشأة منظمة العمل الدولية، والإعلانات الصادرة عنها، ودور المنظمة في تكوين القانون الدولي للعمل، وأثر التطورات العالمية الاقتصادية والاجتماعية على النشاط المعياري للمنظمة.
كما تناولت الدراسة المصادر الثانوية للقانون الدولي للعمل والصادرة عن منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الحكومية الإقليمية.
وأخيرا، تضمنت الدراسة نظم الإشراف والرقابة على تطبيق القانون الدولي للعمل في إطار منظمة العمل الدولية. وكذلك نظم الإشراف والرقابة في إطار منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الحكومية الإقليمية.
ولعله من المفيد في هذا الشأن، التذكير بأن ما حققته المنظمة من نتائج على صعيد دورها التشريعي في وضع معايير العمل الدولية على مدى مائة عام، يعد إنجازا ضخما، ونجاحا فريدا ومتميزا للمنظمة يجدر بها أن تفخر به في هذا العصر الذي اتسع فيه سلطان الدول وزادت غيرتها على سيادتها، ورفضها أي شكل من أشكال التدخل في شئونها الداخلية، خاصه في مسائل العمل.
ولا تنحصر الأهمية القاعدية لهذا الإنجاز في مجرد اسهامه الملحوظ في تكوين متكامل في مجال التشريع الدولي للعمل فحسب، وإنما تكمن هذه الأهمية في التأثير التكويني والإيجابي لهذا القانون الدولي على تشريعات العمل الوطنية وعلى السياسات الاجتماعية في مختلف دول العالم، وأصبح يلعب دورا رائدا في تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير السلام الاجتماعي.
إن اتفاقيات وتوصيات العمل الدولية التي صدرت عن منظمة العمل الدولية منذ عام 1919 وحتى الآن في موضوعات ومسائل مختلفة في قضايا العمل والعمال، باتت تشكّل ما يسمى بالمدونة الدولية للعمل أو بحسب تعبير (Jenks) موسوعة قانونية “Corpus Juris” للعدالة الاجتماعية، وذلك لما تتضمنه من أحكام ومبادئ وقواعد متطورة وعالمية التطبيق وتتصف بالمرونة وجودة ودقة الصياغة مما يجعلها المصدر الحقيقي لمبادئ وقواعد القانون الدولي للعمل، ومصدر الهام لمختلف الدول لتطوير وتعديل تشريعاتها لتستقيم على نهج وأحكام وقواعد هذا القانون، بل إن تطبيق الدول لأحكام هذا القانون أصبح معيارا على درجة التقدم الاجتماعي التي بلغتها الدول الأعضاء.
وفي ذات السياق المتعلق بالدور التشريعي لمنظمة العمل الدولية، فلم يعد يثور ثمة شك في استكمال اتفاقيات العمل الدولية لخصائص التشريع، بل إن منظمة العمل الدولية – وكما ذهب Dehaussy – كان لها الفضل في أن عرف العالم لأول مرة نظاما حقيقيا للتشريع على المستوى الدولي.
كما أن المنظمة في خصوص النشاط التشريعي – وكما قال الدكتور محمد طلعت الغنيمي- قد لعبت دور الرائد الذي احتذت حذوه منظمات دولية أخرى مثل اليونسكو، ومنظمة الأغذية والزراعة، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة الطيران المدني الدولية. كذلك فإن نصوص اتفاقيات العمل الدولية – وكما قال Jean-Michel, Scelle – يجري التصويت عليها واعتمادها من خلال برلمان دولي للعمل هو مؤتمر العمل الدولي.
يتضح من كل ما تقدم، أهمية ووجوبية القانون الدولي للعمل، وهذه الأهمية أكدها مؤتمر العمل الدولي في دورتيه المنعقدتين في عامي 1984 و1997، حيث تركز النقاش فيهما حول النشاط المعياري (التشريعي) لمنظمة العمل الدولية، خاصة في ظل العولمة في الدورة الثانية.
إن معايير العمل الدولية، شأنها في ذلك شأن أي عمل قانونى آخر – وكما ذكر الدكتور عدنان التلاوي – يجب أن تكون عملا حيا مستمرا ومنفتحا على تغير المفاهيم والتقنيات والظروف الإنسانية في سائر المجتمعات البشرية.
فالحياة بطبيعتها متطورة لا يمكن أن تتوقف وكذلك الشأن القوانين لا يمكن أن تتجاهل حركة الحياة وسنة التطور، ومن ثم فإن النشاط المعياري (التشريعي) لمنظمة العمل الدولية وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية لا يمكن أن يتوقف عند مرحلة زمنية بعينها – كما أن سلامة أو قوة ركائز أي نظام قانونى يعتمد على مدى قدرته وكفاءته على التطور والملاءمة ومسايرة الأوضاع الجديدة.
وإذا كان النصف الأول من القرن العشرين قد شهد إنشاء منظمة العمل الدولية وكثير من المنظمات الدولية الأخرى، فإن النصف الثاني من القرن العشرين قد شهد الكثير من التطورات العالمية، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بالغة الأهمية، وفى مقدمتها العولمة، وسقوط حائط برلين، وقرارات تحرير التجارة العالمية، والتحولات الديمغرافية، وتغير المناخ، والابتكارات التكنولوجية، والثورة الرقمية وتزايد انعدام المساواة، والتحدي المطروح أمام العدالة الاجتماعية، والانتقال إلى الاستدامة البيئية، والمعالم المتغيرة في الفقر والازدهار. لقد شكّلت هذه التطورات تحديات كبيرة لمنظمة العمل الدولية وأنشطتها المختلفة، وفى الصدارة منها نشاطها المعياري (التشريعي) ومن شأنها أن تؤدى إلى تحولات في عالم العمل في القرن الحادي والعشرين.
ويمكن القول بوجه عام، أن الظروف العالمية التي نشأت فيها منظمة العمل الدولية عام 1919 قد تغيرت الآن بعد مائة عام تغيرا كاملا، وأن كثيرا من معايير العمل الدولية قد تجاوزته الظروف العالمية، مما يستوجب تطويرها وتعديلها بما يتلاءم مع مقتضيات الواقع المتغير في عالم اليوم.
لقد استهلت منظمة العمل الدولية عملها بانضمام 44 دولة في عضويتها، أما الآن فتتمتع المنظمة بعضوية شبه شاملة لـ 187 دولة في العالم، وبالتالي لم تكن أبدا عالمية، بقدر ما هي عليه اليوم، وقد أدت أشكال التقدم الحقيقي في عالمية المنظمة إلى تباين متزايد في أوضاع واحتياجات الدول الأعضاء، ولذلك فإن التحدي الحقيقي الذي يواجه منظمة العمل الدولية الآن، هو أنه كيف يستطيع واضعو التشريع الدولي للعمل مراعاة التباين الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والفكري للدول الأعضاء في منظمة العمل الدولية، وكيف يمكن تبنى معايير عمل دولية في عالم يخضع لتحولات عديدة تستجيب لكل هذه الاتجاهات المتباينة وتراعي الاختلافات بين مستويات التنمية والظروف الاقتصـادية والاجتماعية بحيث تكون هذه المعايير بمثابة عنصـر تقريب وتنسـيق بين هذه التشـريعات ومصـداقيتها ومرونتها من ناحية أخرى. وهو أمر يغاير ما كان قائما غداة الحرب العالمية الأولى أو الثانية، حيث كانت الدول تتماثل ســـــياسـة وفلسـفة ومناهج اقتصادية واجتماعية.
ثمة تحد آخر يتعلق بتحقيق العدالة الاجتماعية، لقد أكد دستور منظمة العمل الدولية وإعلان فيلادلفيا على أهمية تحقيق العدالة الاجتماعية كسبيل لإقرار السلام العالمي والدائم. غير أن مفاهيم العدالة الاجتماعية، والسلم الاجتماعي، والقيّم الاجتماعية، التي تسعى الدول الأعضاء إلى تحقيقها في الوقت الراهن، لم تعد تماثل تلك التي سعت إلى بلوغها في مطلع القرن العشرين.
فالعمل الدولي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية لا ينحصر في تحقيق الحماية التقليدية للضعفاء في المجتمع أو في مجرد القيام بعمل إنساني بحت هدفه إصلاح المظالم والتعسفات الصارخة أو مجرد الغاء الظلم الاجتماعي، وإنما هي – وكما يقول البير توما – سياسة إيجابية تسمح للفرد للحصول على حقوقه السياسية والاقتصادية والمعنوية.
والسلم الاجتماعي داخل الدولة قوامه وجود أوضاع وظروف مستقرة تستبعد القلاقل والتوترات الاقتصادية والاجتماعية، ومن شأنه أن يسهم في القضاء على التوتر الذي يمكن أن يمتد أثره إلى الصعيد الدولي على نحو يهدد السلم العالمي. ولذلك، فإنه بمحاربة الظلم، فإن منظمة العمل الدولية تخدم قضية السلم، وهو ما أكد عليه دستور منظمة العمل الدولية وإعلان فيلادلفيا من أنه “لا سبيل إلى إقامة سلام عالمي دائم إلا إذا بنى على أساس من العدالة الاجتماعية”.
والقيّم الاجتماعية لمنظمة العمل الدولية، هي قيّم عالمية وتتصل بشكل وثيق بالعدالة الاجتماعية وحماية كرامة الإنسان العامل والسمو بإنسانيته وما يبذل من جهد وطاقة بشرية وحماية حقوقه وحرياته أينما كان.
وعلى الرغم مما تقدم، فإن مطلب تحقيق العدالة الاجتماعية ما زال أمرا ملحا في عالمنا المعاصر، فلئن كانت حقوق الإنسان وحرياته الأساسية قد شهدت تحولات جوهرية في القرن العشرين تحت تأثير عوامل متعددة في طليعتها بلورة هذه الحقوق في مواثيق وإعلانات دولية وإقليمية، وأصبحت روح العدل والكرامة متوفرة في كل مكان، فإن الإحساس بالظلم والجور الناجم عن الفقر والتمييز بين الجنسين والاستبعاد والتهميش الاجتماعي، وعمل الأطفال، والتدهور البيئي، واتساع الفجوة بين البلدان الغنية والفقيرة، كل ذلك أخذ يتطور هو الآخر، وأدى إلى اختلالات أساسية فيما بين الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وقد سجلت اللجنة العالمية المعنية بالبعد الاجتماعي للعولمة التي شكلتّها منظمة العمل الدولية في تقريرها الذي قدمته عام 2004 بعنوان “عولمة عادلة – توفير الفرص للجميع ” المعاني المتقدمة، للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية العالمية عند إعداده، ومن بين ما تضمنه التقرير ما يلى:
“ثمة شرخ يتزايد اتساعا بين الاقتصاد العالمي المنظم والاقتصاد المحلى غير المنظم الذي يزداد توسعا في معظم المجتمعات. وغالبية سكان العالم تعيش وتعمل في الاقتصاد غير المنظم، ولا زالت مستبعدة من المشاركة المباشرة العادلة والمنصفة في الأسواق، ومن العولمة، وهي لا تتمتع لا بحق الملكية ولا بأي حق من الحقوق، ولا تملك القدرة ولا الموارد اللازمة للدخول في المعاملات الاقتصادية الإنتاجية”.
وتعد هذه الفئة من أكثر الشرائح الاجتماعية ضعفا وغبنا ومحلا للاستغلال على صعيد علاقات العمل والاستخدام، وأمسها حاجة للرعاية على الصعيد العالمي.
ولا يمكن التغاضي عن بواعث القلق الحقيقية المتعلقة بتحقيق العدالة لدى هذا القطاع الكبير من العمال الذين ما زالت ثمار العولمة بالنسبة لهم مجرد سراب. ولئن كانت العولمة العادلة أمرا إيجابيا، إلا أنه لكي يستفيد منها الناس، فإنها تتطلب – كما تقول اللجنة العالمية المذكورة – إرساء قواعد مشتركة وأفكار عملية، وحلول متوازنة، ويتعين أن ننظر إليها من زاوية الرجال والنساء في حياتهم اليومية.
وقد أكد المدير العام لمكتب العمل الدولي هذه المفاهيم في تقريره المقدم للدورة (102) 2013، وتحت الفقرة الفرعية “نحو قرن ثان لتحقيق العدالة الاجتماعية ” ص21، حيث قرر:
“ويتمثل أحد الدروس الواضحة على أي حال في أن على منظمة العمل الدولية، إن أرادت أن تظل وفية لأهدافها في مجال العدالة الاجتماعية، أن تعطى الأولوية لوضع الأشخاص الأكثر حرمانا في عالم العمل. وأساس ولاية المنظمة هو القضاء على ظروف في عالم العمل من شأنها أن “تعرض السلام والوئام العالميين للخطر”. وتقع هذه الضرورة خارج وفوق دائرة المصالح المحددة والمشروعة لكل من المجموعات المكونة لمنظمة العمل الدولية، وهي في الواقع مكملة لهذه المصالح ومتماشية معها، وذلك بموجب المبدأ القائل إن الفقر حيثما وُجد يشكل خطرا على الرخاء في كل مكان”.
” لذلك، يجب على منظمة العمل الدولية أن تستهل قرنها الثاني بالتزام صريح تجاه أكثر الناس استضعافا في عالم العمل: تجاه من يعيشون في الفقر أو على هاويته أو يواجهون خطر الوقوع فيه؛ تجاه من يعملون في ظروف فيها انتهاك لحقوقهم الأساسية وحرمان منها؛ تجاه من هم مستبعدون من المجتمع ومن فرص العمل اللائق؛ تجاه من يشكل عملهم تهديدا لكرامتهم الإنسانية وسلامتهم المادية والمعنوية؛ تجاه من يعيشون في خوف من المستقبل لافتقارهم إلى سبل الحصول على الخدمات والحماية الاجتماعية الضرورية. وإذا كان الوصول إلى هؤلاء الأشخاص صعبا وتلبية احتياجاتهم أصعب من ذلك، فإن ذلك سبب إضافي لكي تضاعف منظمة العمل الدولية جهودها للوفاء بمسؤولياتها تجاههم.”
ولقد كان قطاع الاقتصاد غير المنظم من أكثر قطاعات النشاط الاقتصادي تضررا من أزمة (كوفيد 19) حيث قدرت منظمة العمل الدولية في تقريرها السابق الإشارة إليه، أن الأزمة دمرت فرص وسبل العيش لنحو 1.6 مليار في الاقتصاد غير المنظم يمثل (76%) من العمالة غير المنظمة في جميع أنحاء العالم.
ونطاق القانون الدولي للعمل، قياسا على التشريعات العمالية الوطنية رغم امتداد شموله لفئات هامة من العمال إلا أنه لم يتناول مشاكل سائر فئات العمال، ذلك هو التحدي الثالث لمنظمة العمل الدولية.
أما التحدي الرابع والأخير فيتمثل في التغيرات السريعة وغير المألوفة في عالم العمل والناشئة عن الابتكارات والثورة الرقمية والتكنولوجيا، والتي تركت آثارها على أسواق العمل، وبيئة العمل، وعقود العمل، وعلاقات العمل وظروف العمل، وجودة الوظائف ونوعيتها، ومضمون العمالة في النمو الاقتصادي، ومستويات البطالة العالية السائدة في كافة أرجاء العالم، وزيادة مخاطر العمل، خاصة الناشئة عن نقل مواقع الأنشطة الصناعية للشركات متعددة الجنسيات. إن هذا التغير في عالم العمل أصبح يتجاوز بأشواط القدرات التي يتمتع بها واضعو السياسات من أجل التحكم به.
وفى النهاية ينبغي الإشارة إلى التحديات التي ترتبت على جائحة (كوفيد 19) والتي رصدها تقرير لجنة الخبراء في منظمة العمل الدولية حيث يتضمن عددا من التحديات الرئيسية المترتبة على الجائحة بالنسبة إلى للحقوق في العمل منها ” أثر القيود المفروضة لحماية الأمن القومي والصحة العامة على الحقوق والحريات، والحريات المدنية والحرية النقابية على وجه الخصوص، والحفاظ على عالمية جميع حقوق الإنسان وعدم تجزئتها وترابطها وتكاملها، وحماية الفئات المهمشة، هذا فضلا عن التحديات المتعلقة بالسلامة والصحة المهنيتين، والضمان الاجتماعي، وسياسة العمالة، والحريات النقابية، وعمل الأطفال، والعمل الجبري والمساواة وعدم التمييز، وتفتيش العمل، والأجور، ووقت العمل، والعاملون في الخطوط الأمامية، والشعوب الأصلية”. (انظر لمزيد من التفصيل تقرير لجنة الخبراء المشار إليه – مبادئ عامة – الفقرات (من 49 حتى 91)، والصفحات من ص14 حتى ص 21 من التقرير).
ولا ريب أن هذه التطورات العالمية وما خلفتّه من تحديات من شأنها أن تدفع التشريع الدولي للعمل قدما، وأن يسهم النشاط المعياري (التشريعي) لمنظمة العمل الدولية ومن خلال إصدارها معايير جديدة، واستحداث وسائل وأساليب متطورة تتواكب وهذه التغيرات، وتعكس حيوية منظمة العمل الدولية وقدرتها على التكيف مع التطورات في عالم العمل في القرن الحادي والعشرين. وهو ما أكد عليه إعلان مئوية منظمة العمل الدولية الصادر عام 2019 حيث قرر بأن هذه التطورات “تتطلب من المنظمة أن تملك مجموعة معايير عمل دولية تكون واضحة ومتينة وصائبة ومواكبة للعصر توفر أوجه الحماية الضرورية لجميع أشكال العمل، وتكون مصدقة ومطبقة في القوانين والممارسات وخاضعة لإشراف فعال وذي حجية”.
هذه في تقديري التحديات الحقيقية التي سيواجهها القانون الدولي للعمل حاضرا ومستقبلا.
نائب رئيس هيئة قضايا الدولة (سابقا)
خبير بمنظمة العمل العربية
منتدب للتدريس بالجامعات المصرية