“لا يوجد في تعاليم الإسلام كلمة واحدة تعوق تقدم المسلم، أو تمنع زيادةَ حظه من الثروة أو القوة أو المعرفة ، فالإسلام دين الذهن المستنير، وإن أصحاب التفكير الحر ليجدون في هذا الدين السمح -عقيدة وشريعة- ما يستولي على الإعجاب، وما يهدي إلى الإقناع، “. جاءت هذه الشهادة على لسان المفكر المجري الدكتورجيولا جرمانوس في حوار مع الكاتب الكبير محمود تيمور خلال تواجده بالقاهرة عام 1934 لدراسة اللغة العربية بالأزهر الشريف.
وهي شهادة حق نطق بها بعد دراسة علمية طويلة وعميقة ، حيث عمل عام 1912 أستاذا للغات العربية والتركية والفارسية وتاريخ الإسلام في الأكاديمية الملكية المجرية للدراسات الشرقية في بودابست ، وعمل أستاذا للدراسات الإسلامية في جامعة البنغال بالهند في الفترة من 1929 وحتى 1933 وشغل منصب رئيس المعهد الشرقي في بودابست عام 1941، وعين رئيسا لقسم اللغة العربية بكلية العلوم والفنون بجامعة بودابست عام 1944، وتم اختياره عضوا بمعهد الأبحاث الشرقية بلندن عام.1972.
وجاءت شهادة جرمانوس المنصفة ليس فقط نتيجة الدراسة العلمية بل بعد جولات ميدانية زار خلالها كل من تركيا ومصر والهند والسعودية وسوريا والبوسنة والنمسا وبريطانيا.
ولد جيولا جرمانوس في بودابست عاصمة دولة المجر في 26 نوفمبر عام 1884 ونشأ في أسرة مسيحية متدينة . وشغف منذ صغره بدراسة اللغات فتعلم اللغات الألمانية والفرنسية واللاتينية، ثم التحق بجامعة بودابست وتخصص في دراسة اللغة والآداب التركية وحصل على البكالوريوس بتفوق عام 1903 ، ورأى المسئولون بالجامعة أن يتخصص في دراسة اللغة التركية، فبعثته الجامعة في نفس العام إلى جامعة إسطنبول ليتعلم اللغة التركية، وقد استطاع خلال عامين أن يجيد اللغة التركية قراءة وكتابة ومحادثة.
ويقول الباحث ياسر حجازي في دراسة بعنوان ( جرمانوس المستشرق عاشق القرآن والعربية ) ، أنه خلال تواجد جرمانوس في جامعة إسطنبول، قرأ تفسيرا للقرآن الكريم باللغة التركية لتكون البداية الأولى لتحوله واهتمامه بالإسلام والقرآن ، “وجذبه التفسير إلى معرفة حقائق الإسلام من مصدره الأول بعد أن رأى في ضوء التفسيرات التي طالعها باللغات المختلفة مغالطات المبشرين ممن يحمِّلون الإسلام ما ليس فيه ويحملون عليه”. وعاد بعد عامين الى جامعة بودابست ليحصل منها على درجة درجة الدكتوراه عام 1908 وهو في سن 24 عاما . ورد داخل أروقة الجامعة على افتراءات كثير من المستشرقين على الاسلام رغم أنه لم يكن مسلما وقتها، وذكرت الدراسة أنه ” طلب تحديد موعد لإلقاء محاضرة تبين وجهة الإسلام فيما يخوض فيه الخائضون دون اطلاع، وعكف أسابيع عدة جامعا كل ما يلصق بالإسلام زورا كاشفا عن افتراء كل تلك الأقاويل”.
وبعد دراسة مستفيضة أعلن جرمانوس اسلامه في جامع شاه جيهان في نيودلهي عاصمة الهند عام 1933 واخذ لنفسه اسم عبد الكريم. وفي لحظة إسلامه أعطي لكل المسلمين دروسا في التواضع فعقب على تعليقات المهنئين باسلامه قائلا :” فابتهلتُ إلى الله أن لا يدع هذه النفوس البريئة تنظر إليِ وكأنِي أرفع منها قدرا، فما أنا إلا تائه جادّ في البحث عن النور، لا حول لي ولا قوة، مثل غيري من المخلوقات الضعيفة”.
ويذكرنا بأن الإسلام مظهر وجوهر قائلا :” الإسلام دين نظافة ، نظافة الجسم والنفس والسلوك الاجتماعي، والشعور الإنساني”. وما احوج المسلمين إلى هذه التذكره في عصرنا الحاضر الذي طغت فيه المادية والمظهرية.
وعشق جرمانوس اللغة العربية حتى قبل إسلامه فدرسها باستفاضة ولقب بـ ” عاشق اللغة العربية” واختير عضوا بمجمعات اللغة العربية في القاهرة وبغداد ودمشق، وظل مدافعا عن الفصحى بصفتها لغة القرآن ورفض مطلقا الكتابات باللغة العامية قائلا: “إن العامية لغة حديث فقط ولا تتسع إلى تصوير الخلجات العميقة، وكشف السرائر الغائرة في الأعماق كما تتسع الفصحى لرسم أدق النوازع في إبداع”.
رحم الله جرمانوس الذي قال لحظة وفاته بالمجر في 7 نوفمبرعام 1979 :” لقد تمنيت أن أَعِيش مئةَ عام لأحقق كل ما أرجوه لخدمة لغة القرآن الكريم، فدراسة لغة الضاد تحتاج إلى قرن كامل من الترحال في دروب جمالها وثقافتها”..
Aboalaa_n@yahoo.com