“التعليم الثانوِيِ العامَ يجب أن يقتصـر على من يكون ذا قدرات واستعدادت دراسية عالية أما باقي الطلبةِ فيجب أن يتجِهوا نحو التعليمِ الفني المهني الصناعي والزراعي والتجاري”. قال هذه الحقيقة الهامة قبل 67 عاما الدكتور اسماعيل القباني أول وزير للمعارف ( التعليم) بعد ثورة يوليو عام 1952 حيث تولى الوزارة في سبتمبر من نفس العام ولم تطول مدة خدمته كوزير فقد ترك الوزارة في يناير عام 1954 .
بعدها بسنوات طويلة بدأت الحكومة تعي جزئيا لأهمية دعوة القباني، الذي يعد من رواد التربية في مصر ، بالإهتمام بالتعليم الفني باعتبار ان السواعد الفتية المدربة مهنيا هم أساس نهضة الأمم، وأيضا نخفف من بعبع الثانوية العامة بوضع معايير جادة وعلمية للدراسة في الثانوي العام بالاضافة للمجموع . وتمثل هذا الاهتمام بتخصيص وزارة للتعليم الفني ثم أعدنا دمجها في التعليم العام ، ولا يزال التعليم الفني يقتصر في غالبه على الجانب النظري مما يقلل من فرص العمل للخريجين . بينما ظلت الثانوية العامة هاجس كل الاسر المصرية لأنها البوابة الرئيسية للتعليم الجامعي، وبسبب اللهث من أجل المجموع الأعلى للإلتحاق بما يسمى كليات القمة تحولنا إلى التعليم التلقيني الذي يعتمد على الحفظ وقليل من الفهم ، وبالتالي اصبح معظم الخريجين يطلق عليهم وصف ” خريج منزوع الدسم “.
ذكرت الموسوعة العربية أن القباني قدم نظرية متكاملة في التربية والتعليم، وطبقها في المدارس المصرية، وأطلقها عمليا بإصلاح التعليم الابتدائي في مصر وجعله عاما والزاميا ومجانيا ، ودعا إلى توحيده لأنه كان مزدوجاً (قسم منه معد للعامة وينتهي بنهاية الدروس الابتدائية، وقسم للأثرياء والميسورين ويتصل بالمدرسة المتوسطة والثانوية) حتى يتحقق مبدأ تكافؤ الفرص، وتقليل الفوارق من الطبقات الاجتماعية في مصر. وضمن القباني الذي يعد رائد التربية التجريبة نظريته في كتب قيمة منها:( دراسات في مسائل التعليم ) و( التربية عن طريق النشاط) ، و(دراسات في تنظيم التعليم في مصر ). ويؤكد في كل مواقفه ان الاستقلال الثقافي والتمسك بالهوية الوطنية لا يقل أهمية عن الاستقلال السياسي .
وركز القباني المولود في أسيوط عام 1898م في نظريته لتطوير التعليم على أضلاع العملية التربوية الثلاث المعلم والمتعلم والمناهج . واعتبر المعلم الركيزة الأساسية ومن ثم عمل على اعداده بشكل جيد فساهم في إنشاء معهد التربيةِ للمعلمين عام 1929 (كلية التربيةِ بجامعةِ عين شمس حاليا) وجعل منه أول مركزٍ للبحث العلمي في التربية في مصـر والوطنِ العربي ، وأنشأ العيادات النفسية بمعهد التربية عام 1934 . وأسس رابطة التربية الحديثة عام 1936 ، ورابطة خريجي معاهد التربية عام 1943، كما أصدر صحيفة التربية الحديثة عام 1948 لتكون بمثابة مجلة علمية تنشر الدراسات والبحوث العلمية الجادة .
أما بالنسبة للمتعلم فدعا لتنمية شخصيتة في جو من الحرية، وذلك بتهيئة الأحوال الملائمة لأنواع الأنشطة التي يزاولها، وحصوله على ما يشاء بالإقناع العقلي أو بالاستهواء عن طريق الشعور والاستجابة المستحبة. والربط بين مناهج الدراسة وحياة المتعلم، فتستثير هذه المناهج فاعلية المتعلم وتتيح له التعبير الحر عن ذاته.
وقدم القباني تقصيلا وافيا للمنهج وركز على ضرورة إيجاد صلة وثيقة بين التعليم وشؤون الحياة العملية ، والعناية بالناحية العملية لايجاد صلة وثيقة بين النشاط الذهني والنشاط العملي ، تجنب الإملاء والتلقين وترك المتعلم يتصدى للمشكلات كي يكتشف الحلول بنفسه ، الاهتمام بالفنون الجميلة. ولتطبيق أفكاره عمليا أنشأ القباني المدارس التجريبية لتجريب المناهج وأساليب التربية الحديثة والتي لا تزال موجوده الى اليوم.
ما أحوجنا ونحن في بداية عام دراسي جديد أن نتلمس خبرات من سبقونا، ورحم الله القباني الذي توفي عام 1963 بعد ان ترك فكرا وتجارب تربوية هامة يجب الإهتمام بها .