تتداخل حقوق الملكية الفكرية في كثير من الجوانب ذات الصلة بالتنمية؛ مثل الصحة، والتعليم، والزراعة، والبيئة، من بين أمور أخرى. وجدير بالذكر أن حقوق الملكية الفكرية هي امتيازات تمنحها الحكومات للمبتكرين أو للمخترعين بهدف مكافأتهم، وذلك في أطار التحفيز والتشجيع على الابتكار والاختراع لصالح المجتمع.
وضمن هذه الامتيازات حماية براءات الاختراع، عن طريق السماح لصاحب الابتكار أو الاختراع، باستبعاد الآخرين من صناعة، أو استخدام، أو استيراد، أو تصدير ذلك الابتكار أو الاختراع.
وفي إطار المجال الصيدلي، تسمح تلك الامتيازات للمبتكر أو للمخترع باستبعاد الآخرين حتى من إنتاج الأدوية المثيلة (الأدوية الجنسية) للمستحضرات صاحبة براءات الاختراع، طوال فترة حمايتها. والأدوية المثيلة هي التي تتطابق مع الأدوية الأصلية المحمية،
من حيث الفعالية، لكن أسعارها تكون منخفضة نسبيًّا مقارنةً بأسعار الأدوية المحمية مرتفعة الثمن، مما يجعل الحصول على الأدوية الجنسية مُتاحًا للمواطنين، على عكس الأدوية الأصلية صاحبة براءة الاختراع.
وتعتبر اتفاقية التريبس (اتفاقية الجوانب المتصلة بالتجارة من حقوق الملكية الفكرية) التي اعتمدتها الدول الأعضاء لمنظمة التجارة العالمية في 1994، من أهم الاتفاقات الدولية المعنية بتعزيز وحماية حقوق الملكية الفكرية. ونظرًا لما قد يؤدي إليه هذا التعزيز من تأثير سلبي على المجتمع، على نحو ما ذكرنا، فقد نجحت الدول النامية أثناء مفاوضات الاتفاقية، في إدخال بعض المرونات المختلفة على الاتفاقية،
تعطي في الأساس الحقَّ للحكومات (خصوصًا حكومات الدول النامية والأقل نموًا) في الحيد عن تفعيل هذه الحقوق، في حالات معينة، محددة في الاتفاقية. وفي 2001 أصدرت الدول الأعضاء بمنظمة التجارة العالمية، “إعلان الدوحة” عن اتفاقية التريبس والصحة العامة، ذلك الإعلان الذي أكد على أن تطبيق اتفاقية التريبس لابد وأن يتوافق مع اعتبارات الصحة العامة، وخصوصًا مع إتاحة الحصول على الأدوية، كما أكد الإعلان أيضًا على التزام الدول الأعضاء بأهداف التنمية المستدامة.
ونظرًا إلى أن المنظمة العالمية للملكية الفكرية الـ(ويبو)، هي المنظمة الدولية المفوضة منذ تأسيسها عام 1967، بتعزيز حماية الملكية الفكرية عبر العالم، من خلال التعاون بين الدول وسائر المنظمات الدولية، تدور أعمالها في إطار “اتفاقية التريبس”، وعددٍ محدودٍ من الاتفاقيات الدولية الأخرى.
وهي كمنظمة مكونة من الدول الأعضاء وتابعة للأمم المتحدة؛ لها أيضًا صلاحيات أن تعتمد مبادئ وقواعد جديدة لتنظيم أمور الملكية الفكرية على المستوى الدولي. وبالتالي تلعب هذه المنظمة دورًا حيويًا في تحديد الأطر القانونية المتعلقة بأمور الملكية الفكرية دوليًا؛ مما قد يؤثر بالإيجاب أو بالسلب على عدد من المجالات ذات الصلة بالتنمية، مثل الصحة، والتعليم، والزراعة، والبيئة. وبصفة عامة تدور مناقشات ومفاوضات الدول في الـ(ويبو) بين جبهتين: الجبهة الأولى منهما، تدعو إلى تعزيز حقوق الملكية الفكرية، بزعم تحفيز ومكافأة الإبداع. وهي الجبهة التي تشكلها مجموعة من أغلبيةً الدول المتقدمة (تُعرف باسم “المجموعة ب “)،
وتضم دول الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، واليابان وغيرها. أما الجبهة الثانية، فتدعو إلى تبني توجه تنموي، يحدّ من حقوق الملكية الفكرية؛ لجعل الاستفادة من التقدم العلمي والإبداع في متناول الجميع، وبما لا يتناقض مع الاحتياجات والأهداف التنموية للدول. وتضم هذه المجموعة البرازيل، والهند، ومصر، وغيرها من الدول النامية. وهو الموقف الذي أكدت عليه “اتفاقية التريبس” في ديباجتها، حيث حثت على ضرورة خدمة حقوق الملكية الفكرية للعامة، وخصوصًا لـ “لأهداف الإنمائية والتكنولوجية”.
كانت مناقشة ماهية آليات التنسيق، وأساليب رصد وتقييم تنفيذ جدول أعمال التنمية المبنية على التوصيات الخمس والأربعون، من أهم بنود جدول الأعمال في الاجتماع الخامس للجنة المعنية بالتنمية والملكية الفكرية. وقد استغرقت المناقشات حول هذا البند ساعات طويلة، واتسمت بالتوتر بين مجموعة الـ(داج) وبين المجموعة “ب “. وذلك لشدة حرص مجموعة الدول النامية على تفعيل وتنفيذ جدول أعمال التنمية، وتفنيد استمرار مقاومة الدول المتقدمة له.
المختلفة لدى الـ(ويبو) متناسقًا، وأكثر تلبية لاحتياجات الدول التنموية. حيث اتفقت اللجنة، ولأول مرة منذ خمس سنوات، على برنامج عمل لها، يتكون من خمسة محاور، هي:
أ-تقييدات واستثناءات قانون براءات الاختراع. كانت البرازيل قد قدمت مُقترحًا عن هذه القضية بدعم من مجموعة الـ(داج)، وكذلك قدمت سكرتارية اللجنة الدائمة المعنية بقانون البراءات دراسة من مجموعة من الخبراء في هذا المجال.
ب-نوعية براءات الاختراع وسبل الطعن عليها. وهو مُقترح مقدّم من المجموعة “ب “.
ج-تأثير براءات الاختراع على الصحة. وهو مُقترح مقدّم من المجموعة الأفريقية.
د-سرية التعامل بين مستشاري براءات الاختراع وأصحاب الطلبات. مقدّم بدعمٍ من المجموعة “ب “.
هـ-نقل التكنولوجيا. وهي قضية بالغة الأهمية للدول النامية
عموما اصبحت حقوق الملكية الفكرية تعامل علي انها حقوق اقتصادية وتجارية بحتة , كما تمكنت الشركات متعددة الجنسيات التي تسيطر عمليا ليس فقط علي 70% من حركة التجارة العالمية, بل تمكنت عبر كيانها العملاق ان تصوغ لنفسها مفاهيم, واهداف, وعلاقات تختلف عن الانماط المتعارف عليها دوليا ,
كما تمكن هذا الكيان ان يفرض على العالم أهدافه ومصالحة الجديدة بشروط خاصة متميزة به عبر اداوت تنفيذية اخترعها، منها خصوصا منظمة التجارة العالمية. علاوة على ذلك تمكنت هذه الشركات العالمية من تراكم رزم ضخمة من حقوق الملكية الفكرية هذه، كما استطاعت تحويلها الي اصول استثمارية يجري تداولها والمتاجرة فيها عبر العالم.
هذا واخذت هذه الحقوق تحتل موقعا متميزا ضمن اصول ملكيتها التي اصبحت تشكل نسبة ملحوظة من استثماراتها الاجمالية، حيث تقدر قيمه هذه الاصول بما يعادل ثلث اصولها الاستثمارية الاجمالية في بلدان العالم المختلفة.
رغم الإقرار بطبيعة شرعية هذه الحقوق دوليا، نري ان الاتفاقية الحامية لها، قد استهدفت ليس فقط ضمان مصالح الشركات العالمية متعددة الجنسية المالكة لهذه الحقوق، بل اخفقت في مراعاة التوازن الضروري والمطلوب بين مصلحة المخترع او المبتكر من ناحية، والتزامات وحقوق المستخدم لهذه الحقوق من الناحية الأخرى.
علاوة على اهمالها أحد اهم غاياتها الاساسية الرامية لتسهيل عملية نقل وتوطين التكنلوجيا المتطورة في بلدان العالم الثالث، لتتمكن هذه البلدان حل المعادلة الصعبة في عملية التنمية والتقدم. فالاتفاقية الجديدة هذه تجاوزت كافة الاتفاقات الدولية السابقة،
حينما تم توسيع مجالات التقنيات والاختراعات المشمولة فيها، كما تم تضيق الاستثناءات الواردة في الاتفاقات السابقة التي اريد منها توفير بعض التسهيلات التي يمكن للبلدان النامية والفقيرة الاستفادة والانتفاع منها. علاوة على اطالة مدة تسجيل براءة الاختراع وجعلها 20 عاما لكافة مجالات التقنيات الحديثة.
فالضغوط المتزايدة لهذه الاتفاقية عبر العولمة الجارية في عالمنا المعاصر وضرورات التناغم والانسجام معها من ناحية، محدودية قدرات البلدان النامية المعتمدة اساسا على التقنيات المستوردة من البلدان المتقدمة في تنفيذها من ناحية اخري، كله قاد الي سرمدة حالة التخلف، بل تصعيد الفجوة بين البلدان الفقيرة والبلدان الغنية، كما تعاظمت حالة عدم العدالة الكونية، بالتالي تفاقمت مشكلات الفقر والجوع والمرض.
هذا وظلت الغاية الاساسية والمحور المحدد لهذه الاتفاقية تكمن في حلقة مفرغة، تتمحور في كيفية أسناد عملية الانفتاح الاقتصادي والتحرر من الانظمة والتعليمات، تقليص دور الدولة في اقتصاديات البلدان المختلفة، هي وصفات علاج وضعها صندوق النقد الدولي تنفيذا لما يطلق علية اجماع واشنطن.
ان تعقيدات الموضوع وتشابك مدخلاته تحتم التركيز، واثارة بعض القضايا الهامة التي منها:
1.حماية حقوق الملكية الفكرية واتفاقيات عقود التصنيع المبرمة بين الشركات متعددة الجنسيات وبلدان العالم الأخرى خصوصا البلدان النامية والناهضة
2.حماية حقوق الملكية الفكرية في مجال صناعة الادوية والعقاقير الطبية
3.حماية حقوق الملكية الفكرية والزراعة
اولا: حماية حقوق الملكية الفكرية وعقود التصنيع
عبر تكثيف عملية العولمة تمكنت الشركات العالمية متعددة الجنسية من خلال امكاناتها التقنية والمالية وتراكم المعرفة لديها، الاستمرار في السيطرة والتحكم بمسارات وتوجهات عملية التصنيع على المستوي العالمي، وشملت هذه الهيمنة ليس فقط، فيما تم مشاهدته من مستجدات في مجال قطاع الصناعة الاستخراجية واستغلال الموارد الطبيعية الوفيرة في البلدان النامية (منها صناعة النفط والغاز الطبيعي والصناعات الملحقة معها، كالبتروكيماويات والاسمدة وغيرها على سبيل المثال)
حينما اخترقت الشركات النفطية العالمية الكبرى كافة اجراءات تأميم الامتيازات النفطية محاولات تأسيس وتوطيد قطاع نفطي وطني في عديد من البلدان المنتجة والمصدرة للنفط , من خلال ابتداع طرق استغلال جديدة ومبتكرة منها عقود الخدمة الفنية والمشاركة في الانتاج او اتفاقية المعرفة وغيرها, بل تمكنت شركات اخري متعددة الجنسية ايضا خلال العقود الثلاث او الاربعة الماضية وبمساعدة حكومتها من احداث تهجير صناعي , ربما قسري، حينما رات ان من مصلحتها وبموجب حسابات شاملة للكلفة-المنفعة التخلص من الصناعات كثيفة العمل وقليلة الربحية والتركيز على المجالات كثيفة المعرفة وراس المال ذات معدلات الربحية العالية. علية قد حدث توطين مكثف لخطوط انتاجية وفروع مختلفة
من الصناعة التحويلية. خاصة في مجال صناعة الاجهزة الالكترونية الاستهلاكية التي احتضنته، بالأخص بلدان ساحل المحيط الهادي كالصين وسنغافورة وغيرها. لقد تمت وتتم هذه العملية عبر ما يطلق علية اتفاقيات وعقود تصنيع تبرم بين الشركات متعددة الجنسية والبلدان النامية والناهضة ذات العلاقة.
قبل الولوج في التحري عن ابعاد انماط هذه العقود واتفاقات التصنيع واثارها على عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستديمة والعادلة، وما قد تمخض عنها من نموذج جديد للتصنيع يطلق علية التصنيع الموجة للتصدير،
نري من الضرورة التطرق الي اشتراطات اتفاقية القيود الفنية على التجارة التي تحكم الي حد بعيد عملية التصنيع وتعتبر المحدد الاساسي لها، وما يرتبط بها من التزامات اتجاه الايفاء بمتطلبات اتفاقية حقوق الملكية الفكرية. حددت منظمة التجارة العالمية أحد شروط الانتماء لعضويتها الالتزام بما يطلق علية باتفاقية القيود الفنية على التجارة (TATB)
تتجلي أحد اهم مرتكزات هذه الاتفاقية في: اولا منع البلد العضو في منظمة التجارة العالمية من وضع استثناءات او قيود ضمن عملية التقييس ووضع المواصفات القياسية * او التعليمات الفنية للسلع والمنتجات والخدمات المستوردة والمصنعة محليا من ناحية،
وثانيا اعتبار طلب البلد في اجراء المطابقات الضرورية والفحوصات المختبرية الاضافية اجراءات تعجيزية، خصوصا ان وجدت مواصفات كونية نافذة قد تتداخل او تتشابك مع مثل هذه التعليمات الفنية،
حينما تصبح مثل هذه الاجراءات الوطنية عائقا في انسياب والدخول الحر للمصنوعات الاجنبية الي البلد العضو في المنظمة من ناحية اخري. اعتياديا و كما معروف , تطلب الدول اجراءات مطابقة وفحص السلع المستوردة بموجب تعليمات فنية وطنية معتمدة نافذة, كلة من اجل حماية صحة وسلامة مواطنيها من ناحية, منع الممارسات الخداعية والحفاظ علي البيئة وتحقيق الاهداف العامة من الناحية الأخرى .
انه بلاشك حق ومطلب شرعي للدول، عمدت الاتفاقية الي الغاءة او ابطال مفعوله، حينما فرضت التزامات على البلد العضو في المنظمة تتمحور ليس فقط في ازالة كافة العقبات والاستثناءات التميزية امام الدخول الحر للسلع والتقنيات الاجنبية، خصوصا تلك المغلفة ببراءات اختراع،
وما يرتبط بها من اتاوات ورسوم امتياز، بل استهدفت ايضا عرقلة البلد المعني من اعتمادا وتبني مواصفات خاصة وطنية للسلع والخدمات التي تتوافر فيها مواصفات كونية مشابهة التي هي بالأساس مواصفات فرضتها الشركات العالمية متعددة الجنسية من دون مراعاة لأوضاع البلد المستورد لمثل هذه التقنيات والسلع والخدمات،
او ربما تعارضت مثل هذه المواصفات الكونية مع اهداف التنمية وطموحات البلد في التطوير الذاتي المستقل نسبيا، وحسب مقتضيات مصالحة الوطنية.
اضافة لذلك ركزت الاتفاقية على ما يبدو فقط في معالجة الانتهاكات التي تحصل عبر المواصفات القياسية الوطنية او الكونية لتلك الاختراعات المسجلة با سماء افراد تفرض رسوم امتياز عقلانية، على اسس غير تمييزية
، في حين اخفقت الاتفاقية في حسم مشكلات وقضايا عويصة ناجمة عن اتفاقيات تراخيص التصنيع المتداخلة والمتشابكة والهجينة التي تعقدها الشركات متعددة الجنسية مع عديد من البلدان النامية، بالأخص في مجال ما يطلق علية الاسواق المندمجة مثل قطاعات تكنلوجيا المعلومات والاتصالات والاجهزة الالكترونية الاستهلاكية، والاخيرة اصبحت من الصناعات التي تشكل ركنا هاما في عملية تصنيع عديد من البلدان النامية والناهضة.
ان الاندفاعة الصناعية القوية، التي تمت تحت تسمية التصنيع الموجة للتصدير، اعتمدت على ما يبدو على عقود واتفاقات الترخيص الصناعي المبرمة بين الشركات متعددة الجنسية والبلدان النامية، حيث يعمل بموجبها البلد النامي، كمقاول من الباطن لحساب الطرف الاجنبي من البلدان المتطورة بموجب اشتراطات وقيود شاملة ومتقاطعة وهجينة تجعل المنتج المحلي رهينة للشريك الاجنبي الغربي من اهمها:
1. التزام المنتج المحلي في انتاج السلع والمنتجات حسب المواصفات القياسية وبالعلامة التجارية للطرف الاجنبي
2. الالتزام بكميات انتاج محددة حسب طلب الشركة الأجنبية
3. الاشراف الكامل والرقابة على تسويق السلع المنتجة من قبل الشركة الأجنبية سواء تم تسويق هذه المنتجات والسلع محليا او تم تصديرها الي الخارج
4.قبول المنتج المحلي بهامش ربح محدد مسبقا،
الذي يقل في كثير الحالات عن معدلات الارباح المتحققة للطرف الاجنبي
5.دفع رسوم امتياز لرزم تقنية او عمليات صناعية متكاملة بموجب معادلات حسابية معقدة قد تبدو إعفاءه الظاهري من دفع اتاوات منفصلة لبراءات اختراع للسلع المعينة المنتجة.
ان عدم التزام المنتج المحلي في الاشتراطات المشار اليها، ومحاولته انتاج سلع مماثلة سواء بموجب مواصفات قياسية مطورة محليا او من قبلة، او سعية تسويق هذه السلع المماثلة الاضافية محليا وخارجيا بعلامة تجارية خاصة به، يتوجب علية، عندئذ دفع اتاوات براءات اختراع اضافية على هذه السلعة المنتجة المماثلة،
قد تصل هذه الاتاوة الي حدود تعجيزية، بل ريما تشكل في كثير من الحالات عائقا حقيقا لزيادة او تطوير الانتاج، حيث تودي الي زيادة كلفة المنتوج وتقليص قدرته التنافسية في الاسواق. هذا وتوجد امثلة عديدة توضح الاعباء الثقيلة للإتاوة براءات الاختراع المفروضة هذه.
فمثلا المنتج المحلي الشريك الذي اتفق مع الشركة الاجنبية في انتاج جهاز التسجيلDVD، علية ان يدفع اتاوة او رسم امتياز براءة اختراع يبلغ (20) دولار من اصل سعر المفرد البالغ (49) دولار، ان اراد إنتاجه بمواصفات وطنية مطورة من قبلة, او تسويقه تحت علامة تجارية خاصة به
بالتالي اصبحت تشكل عائقا مؤكدا في توسيع او تطوير الانتاج، حيث يجب علي المنتج المحلي، الالتزام بالمؤشرات الكمية المقررة للإنتاج، وبالتقنيات المفروضة من قبل الشركة الاجنبية. بكلمات اخري تعتبر الشركة الاجنبية المخطط والموجة لمسارات الانتاج في البلد النامي، وما علية الا الخضوع والانصياع. علاوة على ذلك اصبحت هذه الرسوم الباهظة سمة مميزة لاتفاقية التصنيع المبرمة،
وهي تستحوذ على الجزء الاعظم من القيمة المضافة المتولدة من العملية الانتاجية. أكد هذه الحقيقة البنك الدولي في تقرير له مؤخرا، حينما اشار فيه الي ان تكلفة الصناعة الهندسية والالكترونية ستزيد بنسب ة63% على الاقل بعد ان تسدد مصانعها حقوق براءات الاختراع في مكونات هذه الصناعات وهو ما يهدد قدرتها على التطوير والمنافسة الامر الذي ينهي الي الافلاس والاغلاق وتشريد أكثر من 8مليون عامل.
فهذه الشروط تعتبر عملية تحجيم للبلد النامي،
تستهدف بالدرجة الاولي إبقاءه ضمن الاطر المرسومة له في التصنيع من قبل الشركات متعددة الجنسية، وفي سقف مصالحها الاستراتيجية المحددة، وما تريد به من مسارات تصنيع له يجب عدم تخطيها.
لأجل تنفيذ عقود واتفاقات التصنيع المبرمة مع الشركات الاجنبية يتطلب من البلد الموطن لهذه الصناعات او المضيف للاستثمار الاجنبي الصناعي المباشر تحمل اعباء وتكاليف، تتجلي ليس فقط في خلق البيئة القانونية والادارية وتطوير البني الارتكازية المختلفة كالطرق وشبكة الاتصالات وتجهيزات الطاقة وغيرها من المنافع،
وتطوير بني التعليم والتأهيل والتدريب، بل علية ايضا سواء عبر قطاعة العام او الخاص تحمل تكاليف بناء وتشييد المصانع والوحدات الانتاجية المطوبة، التي من المحتمل ان تستورد معظم مكوناتها من الخارج، ومن فروع الشركات متعددة الجنسية المتعاقد معها
للوهلة الاولي يبدو نمط التصنيع هذا يشكل صفقة متبادلة متوازنة وعادلة، يحقق عبرها البلد النامي منافع تشغيل الايدي العاملة العاطلة لدية وحل مشكلة البطالة-العائق الازلي للنمو والتقدم-، وزيادة الصادرات وتحسين ميزان المدفوعات وتحقيق النمو في الناتج. في حين تتمكن الشركة الاجنبية المتعاقد معها تحقيق الارباح المتوقعة من عملياتها
. لا توجد لغاية الان دراسات واقعية وتحليلات شاملة تتضمن تحليل الكلفة المنفعة المباشرة وغير المباشرة الاقتصادية الاجتماعية للطرفين المتعاقدين – البلد النامي والمنتج المحلي والشركة الأجنبية صاحبه حق الامتياز والملكية الفكرية
-، وما يتحمله الطرفان من اعباء وكلف حقيقة مباشرة وغير مباشرة، الا ان القرائن تشير ان الكلفة التي يتحملها البلد النامي تفوق الكلف الحقيقة للشريك الاجنبي .. لهذا ورغم غياب مثل هذه التحليلات فان تكميم عناصر تحليل الكلفة-المنفعة الاجتماعية ضرورة حتمية، ليس فقط للتدليل على محدودية المنافع الظاهرة المكتسبة من قبل البلد النامي
(توفير فرص العمل وتحسن ميزان المدفوعات وتحقيق الوفورات في القطع الاجنبي) بل قد توفر الادلة والحجج لتفنيد نمط عقود واتفاقات التصنيع المبرمة بين الشركات متعددة الجنسية ومؤسسات الاعمال او البلدان النامية او الناهضة وطريقة التصنيع الموجة للتصدير التي تبناها وروج لها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
ان تضمين الحسابات هذه مؤشرات وعناصر وعوامل تعكس الكلف الاجتماعية الحقيقة التي يتحملها البلد النامي من خلال هذا النموذج من التصنيع ومحاولة قياسها بمتغيرات كمية ورقمية تتجاوز الحسابات التجارية التقليدية الشكلية، ربما تعتبر عند انجازها محاولة رائدة واضافةجوهرية لنظريات التصنيع وأنماطه ونماذجه.
فمن اهم هذه العوامل التي يجب مراعاتها في مثل هذه الدراسة ما يلي:
• كلف بناء وتشيد البني الارتكازية في المدن الصناعية التي توطن فيها هذه الصناعات كتجهيزات الطاقة والماء والطرق وشبكة الاتصالات وغيرها من الخدمات العامة والتي تقوم حكومة البلد النامي في تمويلها وتنفيذها
• تردي ظروف العمل وغياب الحقوق العمالية ومحدودية الضمانات الاجتماعية مثل التامين الصحي والضمان الاجتماعي عن البطالة والشيخوخة
• تشجيع الشركات متعددة الجنسية استمرار انظمة الحكم الدكتاتورية والاستبدادية والشمولية وغياب الديمقراطية
• الكلف المرتبطة بتدريب وتأهيل الايدي العاملة المستخدمة والتي لا تتحمل اعباءها المنشاة الصناعية سواء من القطاع العام او الخاص والتي تتعاقد مع طرف أجنبي
• تدني مستويات الاجور والرواتب نسبيا وبالعلاقة مع هوامش الارباح المتحققة سواء للمنتج المحلي او الشريك الاجنبي
• تشغيل الاطفال والحرمان من التمتع بالطفولة، وما وما يتبع ذلك من تأثيرات سلبية على الاجيال الحالية واجيال المستقبل
• تمتع المستهلك في البلدان المتقدمة بسلع وخدمات مستوردة رخيصة مقارنة بحالة حصوله على سلع مماثلة من الانتاج المحلي حيث تعتبر الفروقات بين الحالتين، منفعة للبلد المتطور المستورد لهذه السلع والخدمات، في حين يمكن اعتبارها خسارة او كلفة غير مباشرة للبلد النامي المنتج والمصدر لهذه السلع.
• عدم تمكن البلد النامي التمتع الكامل بنتائج وفوراتة من العملات الاجنبية المتحققة والاحتياطي النقدي من العملية لاضطراره تدوير معظمها في اسواق المال العالمية التي تسيطر عليها الشركات متعددة الجنسيات،
وما قد توفر لها عملية التدوير هذه من امكانيات هائلة في تنشيط القطاع المالي العالمي، وما يتولد عن ذلك من منافع وارباح مباشرة اوغير مباشرة.
يحصل هذا، سواء بسبب محدودية اوقصور النظام المالي وافتقار معظم البلدان النامية والناهضة لي اسواق مالية متطورة من ناحية، او بسبب محدودية طاقات وقدرات البلد الاستيعابية الداخلية في الاستثمار لهذه الاموال من ناحية اخري.
ان حالة تدوير الاموال الفائضة الجارية حاليا سواء في الصين او البلدان المنتجة والمصدرة للنفط اصبحت سمة مميزة في الاقتصاد العالمي المعاصر، التي يطلق عليه” تخمة الادخار”، وهي بالتأكيد دليلا واضحا لهذه الحقيقة المرة في حركة الاقتصاد العالمي المعاصر وعولمته.
هذه امثلة توشر الاعباء الاضافية التي تتحملها شعوب هذه البلدان، ولاتظهر في الحسابات التجارية للشريك الاجنبي او الطرف الوطني الخاص او العام، التي تصاحبت مع عقود تراخيص التصنيع وما تمخض عنها من نمط التصنيع الموجة للتصدير. مما يجعل الحصيلة النهائية الواضحة من العملية هي دائما لصالح الشريك الاجنبي والبلدان الغنية
بالإضافة لكلة، يمكن القول عموما ان تراخيص التصنيع او نمط التصنيع الموجة للتصدير الذي قام في الترويج له صندوق النقد الدولي قد تجاهل بلاشك الاهداف الاجتماعية الحقيقة لعملية التنمية الاقتصادية القائمة على العدالة الاجتماعية، والهادفة معالجة قضايا الفقر والمرض وتحسين الفجوة بين الاغنياء والفقراء، خصوصا
حيمنا انصبت تقييمات الصندوق لأداء هذه البلدان على مدي تحقيقها معدلات النم والاقتصادي -اي الزيادة السنوية في الناتج المحلي الاجمالي-وتحسن اوضاع ميزان المدفوعات وايفاء البلد الاجنبي لديونه الخارجية وتراكم احتياطي من العملات الاجنبية-وهي مؤشرات هامة وجوهرية تهم الصندوق ونشاطه – لكنها بالتأكيد قاصرة في التدليل الحقيقي عن نتائج التنمية المنشودة بكافة ابعادها الاقتصادية والاجتماعية.
علية يتطلب توفير مؤشرات اضافية للتدليل على مدي تمكن هذا النمط من اخراج البلد النامي من مازق التخلف والفقر خصوصا، وان الممارسات التاريخية السابقة التي سادت فترات الاستعمار المباشر لاتزال سائدة وان اختلفت الاساليب والطرق او اشكال توزيع الادوار.
فهذه الاوضاع غير العادلة لنشاطات الشركات متعددة الجنسية تتطابق، بل ربما تتجاوز ممارسات القوي الاستعمارية السابقة. فعبر معظم القرن العشرين تمتعت القوي الاستعمارية وغيرها من الامم المتطورة بتفوق وريادة ملحوظة على الامم النامية والناهضة سواء في مجالات الخبرات في التصاميم الهندسية، الطاقات الانتاجية، الموارد الرأسمالية والايدي العاملة الماهرة. جميع هذه العوامل وفرت للبلدان المتقدمة حاليا مزايا تجارية ساحقة،
كما تمكنت الانتفاع الكامل من مزايا تفوقها الاقتصادي والعسكري والتقني، حينما غزت واستولت مباشرة على المستعمرات او تمكنت من تعزيز نفوذها الكوني عبر اساليب وطرق مختلفة. ولأجل تحقيق المنافع من هذه العملية الاستعمارية تطلب من البلدان الاستعمارية السابقة او المتطورة بناء قواعد عسكرية وحاميات شرطة وتطوير الهياكل الارتكازية في حقول التجارة والادارة والنقل والاتصالات, كما تحتم عليها حفظ السلام الاجتماعي في البلد المستعمر وتوجيه عملية التصدير والاستيراد وتشغيل الكوادر او استيراد المطلوب منها لاستغلال واستخراج الموارد الطبيعية والدفاع عن المستعمرة من الانتفاضات الداخلية او العدوان الخارجي, كلة فرض عليها اعباء وتكاليف باهضه, وتحمل مخاطر واسعة, بل ربما ايضا تقديم ضحايا من مواطنيها ,كما كانت نتائج اعمالها هذه غير مؤكدة, خصوصا في المناطق والاقاليم التي تنافست عليها القوي الاستعمارية فيما بينها .
اختلفت الاوضاع الان تماما، لكن مثلما قامت القوي الاوربية في تقسيم البلدان النامية فيما بينها سابقا، تقوم الان الشركات متعددة الجنسيات عبر عقد التحالفات التجارية المغلفة بمجموعة عقود وتراخيص براءات الاختراع ونشاطات تسويق مشتركة في جني وحصاد المنافع الهائلة بكلف وتضحيات ومخاطر اقل من السابق وخلال عهد الاستعمار المباشر،
كله عمق قدراتها ومزاياها التنافسية اتجاه منافسها الصغار وتوطيد سيطرتها علي الاقتصاد العالمي. لقد تمكنت الان الشركات متعددة الجنسية من خلال تعاظم نفوذها تضخيم ارباحها، خصوصا عند تمكنها من وضع سلعها ومنتجاتها وتقنياتها في بوتقة امنة وهي حقوق الملكية الفكرية.”
ثانيا حقوق الملكية الفكرية وصناعة الادوية والعقاقير الطبية
تؤكد عديد من الدراسات والابحاث والآراء بخصوص العلاقة بين عولمة اتفاقية حماية الملكية الفكرية وصناعة الدواء عموما , والصحة العامة خصوصا, علي جملة من الحقائق نوجز في ادنا ة بعض منها
1. قادت عولمة اتفاقية حقوق الملكية الفكرية الي الارتفاع المستمر والمتزايد في اسعار الادوية في كافة انحاء العالم بما في ذلك البلدان الفقيرة
2. استغلت الاتفاقية من قبل الشركات العالمية في صناعة الادوية لتعظيم ارباحها على حساب حرمان الملايين من سكان الكرة الارضية في الحصول على الادوية المنقذة للحياة.
ففي هذا المجال يدلل المثال في أدناه جشع شركات الادوية العالمية ومستويات ارباحها. لقد تمكنت مثلا الشركة الهنديةA CIP تطوير عقار مضاد للفيروسات الارتجاعية وعرضت بيعة الي منظمة اطباء بلا حدود بسعر يبلغ 5% من التكاليف التي تفرضها شركات اوربية للدواء المماثل
3. لا توجد ادلة واضحة وبراهين معتمدة بان الاتفاقية حول حماية الملكية الفكرية قد دفعت الشركات العالمية للأدوية الي تنشيط ابحاثها او ابتكاراتها لمعالجة الامراض التي تتعرض لها البلدان النامية، بل تم توجيه جل اهتمامها في التركيز على الامراض التي لها سوقا رائجة في البلدان الغنية والمتقدمة كمرض السكر والقلب.
4. ان استمرار ارتفاع كلفة استيراد الادوية المحمية ببراءة اختراع وتعسف شركات الادوية متعددة الجنسية قد دفع حكومات مثل البرازيل وجنوب افريقيا الي تجميد عديد من بنود اتفاقية تربيس والسماح في استيراد او تصنيع اصناف دوائية مشابهة،
مما اعتبرته الشركات العالمية انتهاكا لها حيث حدي بها ان ترفع دعاوي قضائية ضد حكومتي هاذان البلدان.
الا ان الحملة الدولية وتصاعد اصوات المعارضة والمنتقدين لاتفاقية حقوق الملكية الفكرية والاعتراضات المتزايدة على ممارسات شركات الدواء العالمية. ،
قاد كله ليس فقط سحب الشركات دعاويها، بل اضطر منظمة التجارة العالمية الي اضافة بند جديد في اتفاقية حقوق الملكية أطلق علية الترخيص الاجباري لتصدير الادوية للبلدان الفقيرة التي لا تملك صناعتها الخاصة لأنواع من ادوية مماثلة او ترخيص تصنيع ادوية ببراءة اختراع الي شركات صناعية اخري عندما تشعر بان سعر الدواء مغالى فيه بشكل لا يمكن تبريره.
” اي انها حالة خاصة يجوز للحكومة في حالة عدم توفر منتج معين او ان توافره في الاسواق بأسعار باهضه او في حاله رفض مالك البراءة الخاصة او وضعة شروط غير معقولة لهذا الاستغلال، كله اجاز ان تسمح الحكومة لاحد المهتمين بهذا الموضوع استخدام براءة الاختراع ودفع اتاوة مناسبة تحددها الحكومة لمالك البراءة(المادة31) كما يشترط في حالة منح الترخيص الاجباري ان يكون التوريد للسوق المحلي بصورة رئيسة.”
علية ظلت هناك قيود وكلف اضافية يجب ان يتحملها البلد المعني لصالح شركات الادوية العالمية. هذا وعارضت الولايات المتحددة دائما الترخيص الاجباري والاستيراد، لكنها رضخت لاحقا لهذه البنود الجديدة بعد تعرضها ببكيتريا “الجمرة الخبيثة” واضطرار الإدارة باسم مكافحة الارهاب البيولوجي ليس فقط الطلب من شركة باير الالمانية صاحبة براءة الاختراع لتخفيف القيود المفروضة على دواءها المعروف باسم “سيبرو”، بل قامت بترخيص شركاتها لإنتاج مضاد حيوي مماثل لهذا الدواء،
بالتالي انتهكت اتفاقية حقوق الملكية الفكرية التي هي راعيها. مما يعكس بوضوح ازدواجية المعايير لمستخدمه حسب المصالح الوطنية الضيقة
اعاقت الاتفاقية الدول من استيراد او تصنيع ادوية معالجة وراثيا غير مسجلة ببراءات اختراع وذلك من اجل توفير الدواء الرخيص لأمراض مثل الايدز او الامراض المتوطنة في البلدان النامية والفقيرة لهذا السبب اضطر المجلس الوزاري لمنظمة التجارة في الدوحة الي اصدار بيانة المشهور” الصحة العامة فوق الارباح”
التالي تم الاعتراف ضمنيا بتجنني الاتفاقية على اوضاع الصحة العامة، كم أكد على حرية كل بلد في تحديد القواعد التي تتحكم في التراخيص لاستيراد او تصنيع الادوية، كما اشاد في بيانة المشهور على ان الالتزام باتفاقية حقوق الملكية الفكرية يجب ان يشكل فقط الية لنقل التكنلوجية وتطويرها، مع كله، ظل البيان هذا سرابا في دهاليز واروقة منظمة التجارة العالمية.
تعرضت صناعة الادوية في البلدان العربية الي انتكاسات حادة من جراء تطبيقات اتفاقية تربيس، كما لحقت بها خسائر من خلال فتح الاسواق العربية وتعمق حالة احتكار ها من قبل شركا ت الادوية العالمية العملاقة.
فمن ناحية اعطت أحد بنود الاتفاقية لأصحاب براءة الاختراع حق الشفعة وحماية احتكارية مفرطة من ضمنها تعطيل تسجيل الدواء في اي دولة نامية لمدة 30 شهر
او وفي حالة اعتراض شركة عالمية علي هذا التسجيل بدعوي انه يتعارض مع دواء لديها , فان علي الشركة المتقدمة بالتسجيل اثبات حقيقه بان لا يمثل ذ لك اعتداءا صريحا علي براءة الاختراع للشركة العالمية.
عموما قد لحقت بالبلدان النامية التي سبقت في تنفيذ احكام الاتفاقية خسائر قدرها 14 مليار دولار خلال سنة واحدة بسبب فروقات الاسعار. ”
يستنج من الحيثيات المعروضة، ان الاتفاقية” حقوق الملكية الفكرية ” هذه لم تساهم في تمكين البلدان النامية خصوصا الفقيرة وحكوماتها في تحسين الاوضاع الصحية, بل عملت علي تضخيم تكلفة الرعاية الصحية بكافة بلدان العالم الفقير والغني, كلة من اجل تعظيم معدلات ربحية غير عقلانية لشركات الادوية العالمية بحجة توفيرها امكانيات البحث والتطوير.
هذا واخفقت كافة الجهود والمحاولات الساعية الي تغيير المحتوي والفحوى الحقيقي لهذه الاتفاقية بما يتعلق بالصحة العامة، حيث ظلت الاضافات والتغيرات البسيطة والتعديلات الجارية لا تعدو عن كونها محدودة او ترقيعات شكلية بعيد ة عن معالجة جوهر المشكلة,( حق الشعوب والامم في التمتع بالعلاج المطلوب بتكلفة يمكن تحمل اعباءها من قبل الجميع- الاغنياء والفقراء-) فالدواء يعتبر حق اساسي من حقوق الانسان, يجب ان يتجاوز حسابات الربح والخسارة لشركات الادوية العالمية.
ثالثا: حقوق الملكية الفكرية والمنتجات الزراعية المعدلة وراثيا
تعد المنتجات الزراعية والحيوانية المعدلة وراثيا من اهم المنتجات الجديدة التي قامت الشركات متعددة الجنسية في تطويرها واحتكار حقوق استخدامها.
تشمل المنتجات المعدلة وراثيا او المحورة جينيا تلك التي تتدخل الهندسة الحياتية في عملية انتاجها من حيث احداث تعديلات عليها بهدف مضاعفة المحصول والناتج او تحسن شكله وحجم ثماره. ينطبق التحوير هذا على الحيوانات والاسماك المهجنة وراثيا.
استغلت هذه الشركات الهندسة الحياتية في مجال الزراعة وطورت محاصيل كثيرة جمعيها لخدمة الزراعة التجارية الكبيرة وعدم مراعاة اساليب الانتاج الفلاحي الصغير سواء في البلدان المتقدمة او في البلدان النامية التي تفتقر لأنماط الزراعة والفلاحة التجارية المؤسساتية.
مقابل انجازاتها هذه وحفظا لحقوقها بموجب اتفاقية حماية حقوق الملكية الفكرية، استطاعت هذه الشركات العملاقة فرض مثل هذه المنتجات والبذور وما شابهها من سلالات مطورة وراثيا على معظم بلدان العالم خصوصا بعد تمكنها الاستيلاء والاستحواذ على سلالات نباتية طورها الفلاحون في انحاء العالم المختلفة بجهود بذلت عبر الالاف السنين،
حينما قامت في اضافة جينا او بضع جنيات عليها وسجلتها ببراءة اختراع جديدة في بلدها وفي عديد من بلدان العالم، باعتباره منتوج مبتكر جديد، يختلف عن سلالته الاصلية، بالتالي اصبحت هذه السلالات بأكملها ملكا خاصا لها تحميها قوانين منظمة التجارة العالمية كما أصبح اصحابها الحقيقيون مضطرون الي الحصول منها على اذن وترخيص خاص لأجل استخدمها مقابل دفع اتاوات الانتفاع منها.
علية وعبر هذه الحقيقة فقد تم سلب حق الفلاح التاريخي في الاحتفاظ ببذوره بعد تشويهها اصطناعيا واخراجها من أصلها الحقيقي.
علاوة على ذلك ابتكر علماء هذه الشركات من اجل ترويج وتسويق هذه المنتجات المطورة وراثيا بتطوير خطط هندسية وراثية يقتل بها النبات بذوره، فلا تنبت ان زرعت ولا يستطيع الفلاح ان يستخدم بذور الموسم السابق لإنتاج محصول جديد، بل يجب علية شراء ها في كل موسم زراعي جديد مما يصاعد التكاليف الانتاجية علية وتقليص هامش ربحه، بكل ما يتبع ذلك من نتائج على تطور القطاع الزراعي وتحفيزه في الاستمرار على الانتاج.
ان إشكالية هذه البذور والمنتجات المعدلة وراثيا ليست قضية تكنلوجية او زراعية بحتة، بل هي قضية متداخلة الابعاد لها جوانب سياسية اقتصادية وقانونية. انها تحولت الي اداة فعالة وشكلت سلاحا للسياسة الخارجية الاميركية، وذلك عبر الارتباط الوثيق بين طموحات وخطط الادارة في حكومات واشنطن المختلفة من ناحية،
وبين مصالح الشركات الزراعية الانكلو اميركية العملاقة للهيمنة على العالم من ناحية اخري، كله من اجل السيطرة على مقومات الحياة البشرية –الغذاء-. تعود خلفيات التزاوج هذه، او المشروع المشترك بين الادارة الاميركية والشركات الزراعية الغذائية الي مقولة هنري كيسنجر التي صاغها عام 1970(من يسيطر على البترول..يسيطر علي الدول والامم , لكن من يسيطر علي الغذاء سوف يتمكن التحكم بالشعوب”, ومذكرته في تقليص سكان العالم ,بالأخص في دولة من بلدان العالم , منها بنغلاديش البرازيل كولومبيا مصر الحبشة الهند إندونيسيا نيجيريا باكستان تركية ومن خلال استخدام سلاح الغذاء
. التي تحولت الي قاعدة فكرية لعمل مؤسسة هامة تعتبر الاب الروحي لرسم وصياغة والتحكم في السياسة الزراعية الاميركية، هي مؤسسة روكفلر الوقفية المعفاة من الضريبة، المزروعة حول العالم.
تمكنت هذه المؤسسة من تنفيذ اهدافها عبر انسجام وتوافق ذلك مع طموحات النخب الحاكمة في الادارات الاميركية المختلفة التي تتجلي في الهيمنة والسيطرة على تجهيزات الغذاء في العالم. هذا وعملت المؤسسة حثيثا في هذا المجال
, حينما قامت وتقوم ليس فقط في تدريب وتأهيل خيرة علماء العالم الشباب الامعين في حقول الميكروبيولوجي, بل تم ابتداء تحريفها اسم علم تحسين النسل( eugenic ) وجعلة علم الجنيات( genetic ) لإخفاء اغراضها الحقيقة.
من هنا بدأت باكورة اعمالها، واهم المواضيع على اجندة فعاليتها، هي الثورة الخضراء حسبما اورد الاستاذ وليم انكدل في كتابة الموسوم (بذور التخريب).
فعلي الرغم ما حققته الثورة الخضراء هذه من نتائج ايجابية تجلت في تعظيم وزيادة الانتاجية الزراعية في بداية الامر، لكنها بذات الوقت قادت الي
1.تخريب مساحات شاسعة من الاراضي القابلة للزراعة،
2.تدمير التنوع البيولوجي، وتسمم طبقات صخرية مائية
3. الاضرار الصحية التي لحقت بالناس
4. تحطيم وتخريب تنوع اصناف سلالات البذور
5. ترويج وتشجيع الاستخدام المكثف للمدخلات الزراعية المشتقة من النفط والغاز (بالطبع القطاع الذي يحظى باهتمام خاص من المؤسسة) ادي الي مضار صحية وبيئة
هكذا اصبحت الاستراتيجية المعتمدة من قبل الشركات الزراعية العملاقة حث وادخال البذور المطورة وراثيا في كافة انحاء الكرة الارضية مع اعطاء الاولوية للبلدان الافريقية والنامية. كله مكن حسب قول الكاتب نخبة اميركية صغيرة عبر توليفة متشابكة من الادوات منها الهندسة الوراثية وتطوير السلالات من البذور والتقاوي واستخدام المعالجات الجينية واشكال براءات الاختراع من ناحية،
وعبر الفساد الاداري والمالي في اجهزة الدولة البيروقراطية والخداع السياسي من ناحية اخري، الي تحقيق السيطرة وتعزيز نفوذ الولايات المتحدة الاميركية على انتاج وتجهيز الغذاء في العالم، اي بكلمات اخري التحكم بمقدرات الشعوب من خلال خبزها اليومي
من هنا تحققت لحد بعيد طموحات كسينجر التي عبر عنها 1970كما اشير لذلك أعلاه. انها قصة شيطانية مضافة في كيفية قيام ادارات حكومة الولايات المتحدة الاميركية المختلفة ومؤسسات الاعمال الزراعية الكبرى في الهيمنة على العالم عبر هذه الاشكال الحياتية المسجلة ببراءات اختراع ويشكل بذاته دليلا اضافيا لخصصه عولمة حقوق الملكية الفكرية.
دكتور القانون العام ومحكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان