في زيارة صحفية
لروما عام 1995 دعاني صديق للغداء في مطعم بيتزا ..قلت هأنذا سأتذوق الطعم الأصلي لأشهر طبق إيطالي ..
فوجئت أن الطباخ مصري .. سألت فقالوا معظم عمال مطاعم البيتزا مصريين ..
كيف غزونا الطلاينه في طعامهم الرئيسي .. ردوا الصنعة .. المصريون قدموا مذاقا مختلفا بإضافة الخميرة وبعض
التوابل الباردة فلقيت إقبالاً .. التسويق أساس نجاح أي سلعة ..
أقول هذا بمناسبة الحديث
عن الإجراءات
التي انتوت الحكومة اتخاذها لتطوير الصحف القومية بمنع التعيين وعدم
المد فوق سن المعاش وبيع الأصول وغير ذلك من اللوائح .. والحقيقة أن أي
تطوير لابد أن يصدر عن طرفين مفكر ومنفذ .. مبتكر وصنايعي .. لكن في حالتنا
الصحفية الحالية .. لا مجال للإبداع .. فالاختيارات للقيادات تتم للولاء
قبل الكفاءة .. للطاعة قبل المهنية …. الصحافة تتطور بالحرية وليس اللوائح .. الآن الجميع يبدو أنهم في
حصة إملاء حكومية .. لا تسطيع أن تخرج عن البيانات الرسمية قيد أنملة .. لا يمكن ان
تكتب منها قصة إخبارية ..
من ثم أصبحت المانشيتات
موحدة .. والمحتوي معروف للقارئ سلفا .. بالإضافة إلي تليفونات الظهيرة للقيادات
للالتزام بخط يحدده سلفا أولياء أمور صاحبة الجلالة وهم كثر .. اتعجب منذ فترة من تحلق زملاء صحفيين
حول أحد المسئولين ..
يتحدث أمام أجهزة
تسجيلهم أو هواتفهم الذكية ثم ينصرفون وقبل أن يصلوا مكاتبهم يكون البيان
الموحد قد وصل إليهم .. لذلك
لا يذهب كثيرون لمصادرهم .. كما أن البعض يعمل مستشارا إعلاميا لإحدي
الوزارات أو الهيئات الحكومية ليواجه متطلبات حياة قاسية يزيد وطأتها عليه
مرتبه الضعيف..
أتذكر أيام كنا شبابا في
الجمهورية كان الراحل الكبير محسن محمد يخصم يوما لمن يجده علي مكتبه .. ويتابعهم
المرحوم إسماعيل الشافعي رئيس قسم الأخبار في الوزارات للتاكد من
التميز .. اتذكر خبرا بتشكيل الحزب الوطني الديمقراطي أيام السادات
وهيئته التأسيسية.. زميل لنا دخل الغرفة ووجد ورقة مكتوبة بخط اليد وموقعة من
السادات انتظارا لكتابتها علي الآلة الكاتبة (لم يكن هناك كمبيوتر بعد)
.. نشرت الصحيفة الخبر وانهال اللوم علي رأس رئيس التحرير الأسطي بمعني
الكلمة ورد قائلاً “أنا
واثق في مندوبي .. عندكم تكذيب أرسلوه” وانفردنا والأمثال كثيرة أيام محفوظ
الأنصاري وسمير رجب .. كان الانفراد يقابله مكافآت مالية وعلاوات استثنائية
.. الان توحدت الأذواق فبارت السلعة..
لا يمكن أن أبرر تراجع المهنة
بارتفاع أسعار الطباعة ومنافسة السوشيال ميديا والفضائيات فقط , إنها جزء من المشكلة .. الصحافة التي نمارسها
مجرد ديكور .. قدموا محتوي جاذب للقارئ وسيلهث خلفكم سواء موقع إلكتروني أو فضائية
أو حتي يافطة.. جوهر
الصحافة هو القصة التي تصنعها .. ما عدا ذلك بريق زائف .. الموهبة أن تسرد
قصص الأشخاص الذين يتوق الناس لرؤيتهم ..
تجنبوا الكتابة عن الحكومات
والهيئات التي تعتقد ان وسائل الإعلام وجدت من اجل تهديد قبضتها الصارمة
علي السلطة .. حاولوا تغطية أحوال المشردين والذين يعانون الروتين الحكومي
في المستشفيات والمدارس والوزارات .. ذلك أفضل من المؤتمرات والحكوميين
الذين ينظرون للمهنة أنها ديكور لتلميعهم وهالة تحيط بهم ..
الصحافة لن تتقدم وهي
تقدم مهمة استعراضية للبعض .. إنني أثق تماما في وجود مواهب لم تأخذ فرصتها .. هؤلاء سيجلون
الغبار عن الحقيقة .. وهم المنوط بهم وقف نشر الأكاذيب والمبالغة والأخطاء..
وحتي لا اتهم بأنني أسرد
كلاما إنشائياً سأسوق نموذجين لصحافة حقيقية في دول متقدمة يلعب فيها الإنترنت
والسوشيال ميديا أدوار البطولة .. فقتل قاسم
سليماني رئيس
الحرس الثوري الإيراني كان قصة أكبر من الخبر .. وكتبت الجارديان والتايمز
والواشنطن بوست السيناريوهات المحتملة لثمن رأس سليماني وسبقت المحطات
التليفزيونية واستعادت العلاقة بين القارئ وصحيفته .. ما كتبته الصحف
المذكورة قدم مادة أرشيفية مهمة لفهم ما يحدث في الشرق الأوسط وتفتيت الصورة
المشوشة للقارئ الغربي عن واقع العراق والدور الإيراني فيه ..
النموذج الثاني لصحيفة “لاريبو
بليكا” الإيطالية التي قدمت تحليلا هاما لشخصية الرئيس ترامب وقالت إنه نموذج متعمد
لتقديم عالم بلا قواعد أو مرجعيات .. تحليل أسطوري كان يمكن أن تقدمه صحافتنا ..
إنني أعلم يقينا أن
إجادة الكتابة ليست شرطاً لرئاسة التحرير .. الصحافة صناعة .. ليس شرطاً
أن تكون مصطفي امين أو موسي صبري أو هيكل أو صلاح حافظ المهم أن تقدم منتجا
جيدا للمستهلك .. لقد طالت اتهامات كثيرة أساتذة ما قبل 25 يناير .. وها هم ذهبوا فلم نر صنوا لهم .. الصحافة
ليست وظيفة .. ولكنها
إبداع للتحرير
وتسويق للإدارة .. لكن التعاون بينهما الآن يكاد ينعدم .. الصحافة وأزمتها
تمثل إحدي معضلات مصر في التسويق والابتكار .. أما الزعم أنها تخسر فهذا
مردود عليه .. فالحكومة أيضا تخسر .. .. فقد
حاصرت الصحف بإسناد الإعلانات لجهات معينة قصرت نشاطها علي الفضائيات التي تديرها وتم
سحب طباعة
الكتب المدرسية من بعض المؤسسات ..
واستحوذت علي
امتياز الإعلان
بالمطار نازعة إياه من وكالة الأهرام التي نجحت فيه لسنوات .. فإذا بالشركة
التي أسندوا لها المهمة تفشل وتلجأ للأهرام من الباطن!! لقد كان الأفضل
أن تنأي الدولة عن منافسة المؤسسات القومية التابعة لها ..! العلاج في رأيي
يكون بالاستماع لشباب الصحفيين وليس للقيادات لأن كراسيهم أبقي عندهم
من مهنتهم .. العزف في المهنة نشاز الآن .. والموسيقيون أصبحوا جوقة أو كورس
لا يمكنه أن يقدم مقطوعة من تأليفه .. وفقكم الله