ليس جديدا ولا غريبا أن يحتفي الكونجرس الأمريكي (الصهيوني) بمجرم الحرب بنيامين نتنياهو، وهو يرى بقايا دماء الفلسطينيين الأبرياء تلطخ يديه ووجهه، فقد استقبله الكونجرس عدة مرات من قبل بالحفاوة ذاتها التي استقبله بها الأربعاء الماضي، وصفق له الأعضاء قياما وقعودا بالحرارة ذاتها، لكن الجديد هذه المرة أن ينقسم الكونجرس، بل تنقسم أمريكا كلها على نتنياهو، فقد تغيب نصف الأعضاء الديمقراطيين عن اللقاء، واحتشد آلاف من المتظاهرين الغاضبين في محيط مبنى الكونجرس والشوارع الجانبية، يهتفون ضده ويحرقون دميته، وينعتونه بأحقر الأوصاف، ويرفعون الأعلام الفلسطينية، وكشفت إحدى النائبات في تغريدة لها أن “هناك من ملأ المقاعد الفارغة بكومبارس للنتصفيق”.
لم يعد نتنياهو بالنسبة لقطاعات متزايدة من الأمريكيين ملك اليهود المتوج، الذي يخطب وده الرؤساء وزعماء الأحزاب في أمريكا ليمنحهم الشرعية، وإنما هو مجرم الحرب الذي ترك وراءه آلاف الأطفال والنساء قتلى، وجاء إلى الكونجرس ليحصل على صك البراءة من مجرمين مهندمين بثياب عصرية، ثم يرجع ليكمل جريمته، وهو مطلوب للعدالة دوليا، ومطلوب للعدالة في إسرائيل، وهو القائد المهزوم، الذي فشل في حماية المستوطنات، وفي تحقيق النصر واستعادة الأسرى، رغم كل ما حصل عليه من مال وسلاح يتحمله دافع الضرائب الأمريكي، وما زال يمد في أمد الحرب لمصلحته الشخصية.
وإذا كان أهل غزة يبادون بالأسلحة الأمريكية فعلينا نحن ألا نستغرب أن يصفق النواب والشيوخ الأمريكيون لمجرم الحرب الذي يجيد استخدام هذه الأسلحة، لكننا يجب أن نجتهد في كشف المناورات والأكاذيب التي رددها في خطابه حتى لا تنطلي على المغيبين، الذين يفتقدون القدرة على رؤية الوجه الآخر للصورة، ويحبون أن يخوضوا مع الخائضين صما وعميانا.
كان خطاب مجرم الحرب استعراضيا كعادته، ردد فيه أكاذيبه المعروفة، ودار في نفس الحلقة التي يدور فيها من دون أن يقدم جديدا، ولم يكن تصفيق الأعضاء المبالغ فيه له تعبيرا عن الإعجاب ببراعته السياسية، أو ببلاغته اللغوية، وإنما لإظهار الدعم المطلق لإسرائيل، خاصة من جانب الجمهوريين الذين وجهوا إليه الدعوة من وراء ظهر الرئيس الديمقراطي، وقد وصف زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد هذا الخطاب بأنه “عار ومشين، لم يتضمن شيئا ذا أهمية عن صفقة إعادة المخطوفين قبل أن يموتوا جميعا في الأنفاق”.
أما ما يهمنا في هذا الخطاب المشين فهو أنه قدم تفسيرا مكذوبا لأسباب الحرب والصراع في منطقتنا العربية، حيث قال نتنياهو: “إن قوى الحضارة في الشرق الأوسط بقيادة أمريكا وإسرائيل والأصدقاء العرب تواجه محور الإرهاب بقيادة إيران وأذرعها ووكلائها”، فلم يذكر شيئا عن الأرض المحتلة والشعب المحاصر والمقدسات المنتهكة، والبيوت والأحياء المسروقة من أهلها، والمحاولات المستميتة لإبادة الشعب الفلسطيني ومحو ذكره من التاريخ، أو تغيير هويته ليفقد روحه وخصوصيته الثقافية الأصيلة، ويندمج في ثقافة أخرى لمهاجرين تم جلبهم من الشرق والغرب بناء على أساطير تلمودية ملفقة.
وبالطبع تجاهل الخطاب أي سياق عن المقاومة وحق الشعوب في الحرية والاستقلال وتقرير المصير، وتجاهل قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي وحل الدولتين، وقدم القضية ـ ككل خطاب فاشي ـ باعتبارها صراعا مع محور الإرهاب الشرير، واجتهد في أن يختلق قضية بديلة وصراعا بديلا تتوه في ثناياه القضية الأم والصراع الأهم، ويفلت السارق بما سرق.
وفي هذا الإطار جاءت مناورات نتنياهو المكشوفة للربط بين إسرائيل وأمريكا، حتى يجر الأمريكيين إلى أن يحاربوا معه معاركه، فقال لأعضاء الكونجرس: “نحن لا نحمي أنفسنا فقط، نحن نحميكم أيضا، فأعداؤنا هم أعداؤكم، ومعركتنا هي معركتكم، وانتصارنا سيكون انتصاركم، ولكي تنتصر قوى الحضارة يجب أن تبقى الولايات المتحدة وإسرائيل متحدتين، هذا ليس صراع حضارات، بل صراع بين الهمجية والحضارة”.
وانتهز نتنياهو الفرصة ليدعو إلى إلغاء قرار تجميد حزمة من الأسلحة الأمريكية لإسرائيل، كانت قد اتخذته إدارة بايدن ردا على مراوغاته في إتمام صفقة الأسرى، ثم عرج بعد ذلك إلى كشف خطته بشأن وضع غزة بعد الحرب، مؤكدا أن إسرائيل ستحتاج في المستقبل القريب إلى سيطرة أمنية كاملة على القطاع، وأن غزة ستكون منزوعة السلاح وخالية من الراديكاليين (المقاومين)، على أن تكون المنطقة بأكملها تحت إدارة فلسطينيين ممن تعلموا العيش مع الإسرائيليين.
وكما هو واضح، هذه الرؤية تنسف تماما فكرة الصفقة التي عرضها الرئيس الأمريكي، لأنها تعني ـ ببساطة ـ أن حكومة نتنياهو ليس في نيتها إنهاء الحرب، وإنما استرداد الأسرى ثم استئناف العدوان حتى يتم إخضاع قطاع غزة بالكامل للسيطرة الأمنية الإسرائيلية، رغم اعتراض الجيش الإسرائيلي على ذلك لارتفاع الكلفة التي سيدفعها الجنود والضباط، وفرض إدارة فلسطينية مدنية من العملاء الذين يقبلون العمل هناك لحساب إسرائيل، فيكونون عينها وذراعها وقبضتها الحديدية التى تقهر بها شعب غزة بذريعة (التنسيق الأمني).