حركة غريبة انتبهت لها وأنا أغادر البيت نحو معهدي…تبين لي وأنا أتقدم خطوات أن جارا جديدا سيسكن البيت المقابل لنا،والعمال بصدد إنزال الأثاث من العربة الضخمة…
وذات يوم إجازة أسبوعية، فتحت نافذة غرفتي،فشاهدتها…بنت جميلة كقمر مشرق ،غزتني..ولم تتفطن لوجودي ولا لما حدث لي…وهي تضع أصيص الزهر على شرفة البيت.. ثم سقت ورودها لتطفئ عطشها، وتوقد في قلبي نارا وهاجة، زاد تأججها دخولها البيت ولم تحس بوجودي، ولا بالخلل الذي حدث بداخلي.
كدت يومها أرابط في النافذة ، لولا نداءات أمي المتكررة…التي قطعت علي مراقبة هذا البيت الذي غيرت ساكنته
بوصلة حياتي في رمشة عين…واستولت على عقلي وقلبي في ثانية من الزمن… يومها انتابني ارتباك لاحظه الجميع لكنني حاولت كبح جماح مشاعري.. وكتمت سري في فؤاد قد مسته رعشة لا يدرك فحواها إلا من أصابه ما أصابني… واختلج كل ما بداخلي واشتدت علي وطأة الموقف، فاختلط في داخلي وهج الانتظار القاتل ببرد الأمل الذي كان يبعث لي بهمسات طمانة من حين لآخر…ولم أدر كيف مر يومي…وهلل قلبي لقدوم المساء…لأعود إلى المرابطة أمام النافذة أسأل دارها طلة،او نظرة تعيد إلى توازني.
لكن خيبة الأمل كانت ترافقني كلما فتحت النافذة…وركزت لبعض الدقائق على شرفتها…فإذا البيت منير.. والنوافذ موصدة…
جلست إلى مكتبي ..أنجز فروضي..فإذا صورتها بين الصفحات..وهمسها في الأحرف والكلمات،وضحكاتها في صرير قلمي….وبين صداع ومقاومة،غلبني النعاس، ولم أستفق إلا على صوت أمي توقظني لأنتقل إلى فراشي…وأرتمي في أحضان أحلام جميلة تهدهد فؤادي وجفوني فبت ليلتها سابحا.. أو محلقا أو متأرجحا بين أجنحة الرؤى الممتعة…
نهضت على غير عادتي مبكرا، وقد سبقت شروق الشمس…وسارعت للنافذة أملأ رئتي من رؤية الشرفة …شرفة الحبيبة التي لم تفارق إطلالتها ذهني لا في يقظتي ولا في حلمي..ولا في هذياني …
ولم تمض نصف ساعة إلا وأنا جاهز بين حيرة أمي التي كنت أرهقها كل صباح …فتوقضني أكثر من مرة..وأعود للنوم ثانية….
قالت ضاحكة:-“هذه علامة من علامات قيام الساعة،أحمد ينهض قبل أفراد العائلة؟لا أصدق”.
أجبت متظاهرا بالحزم والجدية:الاختبارات على الأبواب ولا بد من شد الحزام يا أمي.
نظرت إلي نظرة المتظاهر بتصديق ما قلت… فهي تعرفني أكثر من نفسي… ولمحت في عينيها بعض قلق …لكنني خفت من استنطاقها لي إذا استفسرت منها سبب حيرتها…خوفا من استجواب بوليسي يضيع علي ما انا منتظره…
تظاهرت بالالتزام والرصانة.. رغم أن قلبي يكاد ينط من بين جنبي.ونزلت السلم درجة درجة.وعيناي تمرران مسحا شاملا على البيت المقصود وما جاوره…والطريق لعلها تكون سبقتني بالخروج…الخروج إلى اين؟ هل هي تلميذة مثلي؟أم تشتغل؟ لا أظن أنها كذلك فهي تبدو في سني.أسئلة شوشت ذهني،ولكنني طردتها بسرعة ووقفت في الزقاق المعامد لنهج بيتنا حتى لا يراني أحد من أهلي…وظللت أنتظر خروجها … كان المغادر الأول هو والدها ..إذ فتح المستودع وأخرج سيارته،فكاد يغمى علي خشية أن يقوم بايصالها إلى مقصدها ولا أقدر على رؤيتها والتودد إليها… لكن السيارة انطلقت ولم يركب معه أحد..فعاد إلي صوابي… وهان الترقب رغم احتراقي في انتظار الموعد.
لم يعد يهمني أن يفوتني موعد المعهد…فانتظار هذه الجميلة أهم من كل المواعيد… فبيدها قتلي أو عتقي من عبودية الظنون تفتت ما بداخلي..
ومضت برهة من الزمن،فإذا الكون يشرق لينير قلبي حين أطلت فتاتي من الباب تلبس فستانا اسود اللون وتلف على شعرها شريطا حريريا أحمر كقلبي الذي ضخ ما فيه من دم دفعة واحدة ..ففقدت صوابي..وتلعثمت. و خانتني الكلمات وفرت من حلقي..فابتسمت لها..وقلت بصعوبة وتردد:”صباح الخير،مرحبا بك في حينا، أنا أحمد جاركم “.
وأشرت إلى منزلنا .منتظرا منها تجاوبا،لكنها ردت بكل برود وهي تواصل سيرها :”مرحبا تشرفت.”
أسرعت خلفها كأنما أطاردها ،باحثا عن كلمات تشدها.وقلت:”لم تقدمي لي نفسك جارتي الجميلة.”
تورد خداها ونافسا الشريطين الحريرين حمرتهما.وقالت في خجل:”اسمي فرح.
دقت طبول الفرح قلبي ،وكدت أصرخ :”يا فرح عمري،وسرور أيامي.”
وبصري منشد لمبسمها الجميل كفنجان عسل مغر أكاد أذوب فيه.
ومشينا خطوات معا ..ولم أسألها عن مقصدها فلنا نفس الطريق…وكان الحديث قليلا تقطعه لحظات تفكير ولملمة أفكار.
حتى وجدتني وإياها
أمام بوابة المعهد الكبير..وفؤادي مزهو بتجاوبها معي..وولجنا الفضاء الداخلي وكلي فخر بأنني أرافق هذه الحسناء الجميلة..شعور جميل خاصة أن كل العيون تلاحقنا ..في حين لمحت في وجهها مسحة من الشعور بالإحراج فودعتها على عجل وانا أستفسر منها وقت العودة… حتى لا تهرب مني فيحوز على ودها معجب آخر.
انكببت على الدروس انجزها وأطرد من خيالي كل ما يشغل ذهني حتى لا تفوتني أي معلومة…فتفوقي سيزيد من شأني في نظرها…كما أنني عودت أهلى على نتائج باهرة… ولي طموحات عدة ..وأحلام لا حدود لها.. انضاف إليها أجمل حلم اليوم هو الظفر بقلب فرح.
ومرت الحصة الصباحية كطيف حلم جميل في جفن طفل صغير ..وهرعت عند رنين الجرس لا ألوي على شيء ،إلا أن أملي عيني المشتاقتين بوجهها الصبوح الجميل….وفتحت لي الدنيا أحضانها حين وجدتها بالباب تنتظرني وقلق باد عليها فهل ظنت أنني غادرت دون التملي بوجهها؟فاليوم لا يكون يوما إلا بتنشق نسائم عبيرها والاستبشار برؤية محياها الساحر….
ونالني من حظ الدنيا نصيب كبير إذ تناسبت روحانا ووجدنا نفسينا روحين لا نقدر على الفراق ولا على البعاد ..وما ساعات النوم إلا هجوع ملؤه اشتياق وحنين ..ثم عودة إلى وصال متين ..فتبادلنا الأماني ،والأحلام والهمسات واللمسات والرسائل المحملة عشقا وطمانينة وحبا لا يفتر أبدا ..
وتعاهدنا على الوصال ،مهما جارت علينا الأيام .وقوي حبنا ومتن وكان العهد بيننا التزاما وثيقا .
رن الجرس ككل يوم وسبقت الفرحة خطاي …وسرحت بنظري لأراها كالعادة واقفة عند الباب الكبير تنتظرني…فلم ألمحها.. تسارعت دقات قلبي ومعها خطاي..لعلها تنتظرني خارج المعهد.لم أجدها..انتظرت قليلا وكأنني على اتون من نار..وبعض ضئيل من أمل يهتف لي من بعيد:”لعلها لم تخرج بعد أنتظر وارفق بهذا الفؤاد الذي أحرق قبل أوانه.”
دقائق تطوي الدقائق ،ولا أمل يرجى ويشب في قلبي حريق…وانسى من أين جئت وإلى أين أروح..
وإذا بالحارس يقبل ويقول:” مالك يا أحمد؟
قلت :”كنت انتظر زميلتي فرح لكنها تأخرت.
أجاب:تلك الفتاة الجديدة؟
قلت :نعم.
قال:”لقد قدم والدها..واستأذن في العودة بها. ووجهاهما يوحيان بحزن كبير،وقلق شديد.”
أصابت كلماته قلبي المكلوم ..ولم أجبه بل جريت بسرعة لعلي أقدر على مواساتها في مصابها فلعل أحد أفراد عائلتها أصيب بمكروه…وهي في حاجة ماسة لي حتى من بعيد…
وصلت الحي وقد تقطعت أنفاسي،ولكنني لم ألمح أمام المنزل أي حركة..فأسرعت لأمي أسألها عما أصاب أهل فرح…فنظرت لي نظرة الحاس بحالي وقالت: لقد توفيت أمها .. ونقل والدها جثمانها لدفنها في بلده لأن أهلها في انتظارها..ومعه فرح وأخوها…”
كدت أسألها عن بلدتهم.. وكيف نتصل بهم؟ لكن أملي بأن يعودوا للحي بعد أيام الحداد جعلني أتجلد وأتألم بشدة .وأندب حظي العاثر الذي حرمني من أجمل كائن في الوجود ..وما بيدي أي حيلة للوقوف مع فرح اليتيمة.
شعرت بطعم الوجع يعشش في داخلي وكرهت المكان والزمان ..وعفت الحياة …لولا بادرة أمل تراودني من حين لآخر أن فرح ستعود إلي ..وسأسعى جاهدا لإعادة البسمة لثغرها الملائكي والتخفيف عنها بكل الوسائل..وكنت أمني نفسي يوما بعد يوم بعودتها…وأسال عنها نوافذ منزلهم والسور والاقحوانة الحزينة في الشر فة…وإذا غادرت أوصيت أمي أن تسليها إذا عادت وتؤنس وحدتها…
.كان ذلك يوم عطلة،فرافقت أمي إلى طبيب العيون…ولما عدت معها إلى البيت ..أخبرنا والدي بأن جارنا أرسل عمالا لنقل أثاث المنزل إلى مدينة أخرى…فصحت:”ألم تسألهم على وجهتهم يا والدي؟ .لماذا لم تعرف منهم مدينتكم؟ أليسو جيرانا لنا؟ وفي محنة؟”
تدخلت أمي قائلة:”هل حملوا كل الأمتعة؟ أم إنهم سيقومون بسفرة أخرى؟”
رد أبي ببرود الغافل الذي لا يعلم السعير المتقد في داخلي :”لا لا .لقد سلموا المفتاح لصاحب المنزل..”
انقطعت آخر شعرة من الأمل…وشعرت أن دوامة تبتلعني.. وتحملني إلى هاوية سحيقة…لا أقدر على الخروج منها…وغبت عن الواقع فلا عدت أعي لا المكان ولا الزمان…ولا أعرف هل أنا حزين ،أم شامت في نفسي…هكذا بدا لي الأمر…وتصلبت كل ذرة في جسمي ..وحملتني قدماي إلى غرفتي…ورميت بقايا هذا الجسد المرهق على الفراش ،وتوسدت دمعي وغطتني همومي التي لا حد لها… وسلمت نفسي لصداع مرعب يطوح بي ….وصورة فرح على الطاولة …أشاهدها بحب وحزن وخوف ووجل …حتى نمت.
وظلت فرح جرحا غائرا في قلبي… لم يندمل…
كان ذلك في ثمانينات القرن الماضي ..إذ كنت غرا.. ولم تكن هناك هواتف محمولة ولا انترنت.. لذلك استسلمت لعجزي عن البحث عنها..واصلت حياة رتيبة لا لون لها ولا طعم…بين واقع مر وأمل في لقائها يوما ما.
وفي الجامعة سألت عنها كل الأصدقاء لا أحد يعرفها لأنني لاأعلم إسم مدينتها الأم….فزاد ذلك من يأسي…ورغم تعرفي على فتيات هناك ..إلا أنها مجرد مسكنات سريعا ما تزول …وأنسحب لشعوري بالضحر والملل.وأعود لصورة فرح أسألها الصفح لأنني خنت صدق حبنا..
وتتالت الايام ودرست علوم الاخبار، وأصبحت صحافيا….وبدأت أخطو خطاي الأولى في سلم العمل الصحافي،حتى اشتد عودي…وكان قلمي صادقا وكلماتي في الحق لا تخشى لومة لائم..وها أنا اليوم أراوح بين المصدح وبين الكتابة….لتمر الأيام مسرعة …ويهرب مني شبابي ،،،وقلبي قد أغلق أبواب الحب بعد فرح التي لقيتها اليوم..وعمري خمسة وأر بعين سنة..وهي كذلك..
كان ذلك خلال الثورة حين ذهبت لسجن النساء لتغطية حوار مع العائدات من سوريا بتهمة جهاد النكاح… كان المكان مكتب مدير السجن..والزمان صباحا…وكنت متحمسا لهذا السبق الصحفي….وبجعبتي أسئلة عديدة لطرحها على الشابات المتنقلبات…فكنت استدعيهن الواحدة بعد الأخرى…وأسجل أقوالهن..ولم تبق إلا سجينة …لما ولجت الباب ولمحتني من وراء النقاب خرجت تعدو في الرواق….دعوت الحاجب لأحضارها.وانشغلت بقراءة ملفها فإذا هي فرح عبد السميع…فرح قلبي وحزنه وعزلته…جريت خلف الحاجب استشيره اللحاق بها…فلم أجده..وإذا بسقوط جسم على الأرض يحدث صوتا…وقطرات دم تغطي ملابسي..وعدسة التصوير في يدي. وأكشف عن وجه فرح التي رمت بنفسها من الطابق الثالث حين جرت.فإذا الشيب قد غزا شعرها.. والتجاعيد قد غيرت ملامحها.فتمنيت أنني لم أرها في هذا الموقف..وفر ذلك الحب من قلبي وكأنه مات مع موتها..وهالني هذا الحدث فقررت إلى مكتبي بعد التقاط صور للفتاة المنتحرة