ما أجمل أن تجتمع الموهبة مع الثقافة، وأن يلتقى الإبداع مع الفكر.. لأن الموهبة بدون الثقافة تخسر كثيرًا، والثقافة بلا موهبة حرث فى البحر.. التقيت مرات قليلة مع الشاعر الكبير صلاح عبدالصبور، وكنت أتابع إبداعاته فى شبابي، وإن كان نصيب شعر نزار قبانى فى شبابنا الأكثر حظًا..
ــ كانت مناطق الفكر عند صلاح عبدالصبور أكثر عمقًا وكان الوجدان الخصب عند نزار أرحب.. وإن اختلف الشاعران، فقد تفوق عبدالصبور على كل جيله فى مسرحه الشعري، الذى دخل به إلى مناطق أشمل وأوسع من عالم القصيدة وأصبح أكثر إنسانية وشمولا.. ذات ليلة كنا فى عشاء فى بيت الأستاذ إحسان عبدالقدوس، ويومها اكتشفت أن صلاح عبدالصبور ليس شاعرًا كبيرًا فحسب ، ولكنه مفكر من طراز رفيع، وأن الأفكار التى تشع من شعره امتداد لثقافة عميقة وفهم جاد وتجربة إنسانية عميقة.. وإذا كنت قد أحببت شعر نزار، إلا أننى قدرت كثيرًا مسرح صلاح عبدالصبور. فقد انتقل من عالم القصيدة المحدود إلى آفاق المسرح، وتألق فيه وتجاوز كل رفاق رحلته مع الكلمة.. وعلى المستوى الإنساني، كان صلاح عبدالصبور إنسانًا راقيًا، مترفعًا سلوكًا وأخلاقًا.
ـــــ أعترف بأننى لم أتأثر بشعر عبدالصبور كما تأثرت بمسرحه الشعري، الذى حمل عبق ثقافته وعشقه للتاريخ وروحه الصوفية التى يغلفها فكر إنسانى رفيع، جمع الفلسفة مع الحب مع صفاء الروح ونقاء البشر.. كانت بيننا مواقف لا أنساها. كنت مشاركًا فى أمسية شعرية فى المسرح القومي، حضرتها السيدة جيهان السادات ، ويومها ألقيت قصائد حب تتعارض تمامًا مع كل أشعار الأمسية، وأشاد صلاح عبدالصبور بما قرأت.. كنا ذات ليلة نقيم أمسية فى نادى أساتذة جامعة القاهرة، صلاح عبدالصبور، وفاروق شوشة، وأنا..وكان ابنى مريضًا، وأصر صلاح عبدالصبور أن أبدأ الأمسية وأقرأ قصائدى لأعود لابني..
ــ لم أكن من حواريى صلاح عبدالصبور، ولم أكن من المقربين له، ولكننى كنت أحمل له إعجابًا كبيرًا وتقديرًا لشعره ومسرحه وعمق ثقافته.. فى ليلة حزينة، اتصل بى الصديق الشاعر فتحى سعيد، وقال لي: «البقية فى حياتك، صلاح عبدالصبور مات».. وحكى لى قصة رحيله وسط أصدقاء تطاول بعضهم عليه ، وأصيب بأزمة صحية، وحمله الأصدقاء إلى المستشفى، ولقى ربه فى غرفة الاستقبال.. بعد أن سمعت قصة رحيل صلاح عبدالصبور، كتبت الحكاية فى الأهرام، واتصلت بى السيدة جيهان السادات يومها وحكيت لها ما حدث، وكانت تقدر صلاح عبدالصبور كثيرًا، واستعانت به فى إعداد رسالتها للدكتوراة فى جامعة القاهرة تحت إشراف الدكتورة سهير القلماوي.. فى اليوم التالي، ذهبت السيدة جيهان السادات إلى بيت صلاح عبدالصبور وقدمت العزاء لزوجته السيدة سميحة غالب ، وعرفت منها قصة رحيله..
ــ كان صلاح عبدالصبور إبداعا جديدا على القصيدة العربية لغة ولفظا وصورة وإيقاعا، وكان جريئا وهو يتعامل مع الكلمة حتى ولو كانت عنيفة وصادمة.. ولا شك فى أن ثقافة صلاح عبدالصبور كانت تشع فى إبداعاته مسرحا وشعرا وإحساسا.. وكثير من المواهب جنت عليها ضحالة الفكر وهشاشة الثقافة.. وكانت قراءات صلاح عبدالصبور من أهم جوانب تميزه عن رفاق مشواره، خاصة أنه تمرد على التراث بعد أن استوعبه وغاص فى أعماقه، فكانت رحلته التى قدم فيها شعرا مختلفا إيقاعا وإحساسا وتمردا على القصيدة التقليدية بكل جذورها..
فشربت شايا فى الطريق
ورتقت نعلى
وضحكت من أسطورة حمقاء
رددها صديق
أعطيك ما أعطتنى الدنيا من التجريب والمهارة
لقاء يوم واحد من البكارة
ـــــ كان صلاح عبدالصبور فى مطلع الخمسينيات حين لقى ربه، وكان أمامه عمر من الإبداع والتألق، ولكن شاءت إرادة الله أن يرحل فى هذا العمر، وسط كوكبة من محبيه ورفاق مشواره.. كان منهم الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى، وجابر عصفور، وأمل دنقل .. مع رحيل عبدالصبور، خسر الشعر العربى مبدعًا كبيرًا ومثقفًا من طراز رفيع..
ـــــ لم يتجاوز مشوار صلاح عبدالصبور ورحلته مع الكلمة خمسين عامًا، قدم فيها مجموعة من الدواوين والمسرحيات، كانت إضافة حقيقية لمسيرة الشعر العربي.. أقول لكم: «أحلام الفارس القديم»، «شجر الليل»، «الإبحار فى الذاكرة»، «الناس فى بلادى».. ومن مسرحياته: «مأساة الحلاج»، «الأميرة تنتظر»، «بعد أن يموت الملك»، «مسافر ليل»، «ليلى والمجنون».. ومن كتاباته النثرية: «على مشارف الخمسين»، «حياتى فى الشعر».. وتبقى الكلمة رحلة على الورق.. شارك صلاح عبدالصبور رحلة الحياة القصيرة مع الشابى، وأمل دنقل، والهمشري، وبودلير، ودى موسيه، وبيرون، وشيلي. ولكن شعره ومسرحياته أخذا مساحة واسعة فى ساحة الإبداع، ثائرًا ومجددًا قال كلمته ومضى..
ـــــ كان صلاح عبدالصبور رائد القصيدة الحرة وأحد فرسان المسرح الشعرى بعد شوقى وعزيز أباظة والشرقاوى وعلى أحمد باكثير ، وإن اجتمعوا جميعا حول موائد التاريخ.
وحين تعرض صلاح عبدالصبور لنقد جارح من أحد أصدقائه ولم يجد من يقف بجانبه لم يتحمل قلب الشاعر قسوة الآخرين وأصيب بأزمة قلبية فارق بعدها الحياة.. وكان رحيل صلاح عبدالصبور مثار حوارات كثيرة حول لغة الحوار بين النخبة الذى وصل إلى القتل بالكلمات، ترك صلاح عبدالصبور رصيدا كبيرا من الإبداع لتلاميذه ومحبيه وإن كان غيابه والصورة التى رحل بها سببا فى أحزان الكثيرين..
ــــــ كانت تجربة صلاح عبدالصبور الشعرية غاية فى الثراء والعمق والجرأة ولو امتدت به سنوات العمر لأضاف للشعر العربى آفاقا أوسع وأرحب، ولكن المؤكد أنه أصبح علامة فى مسيرة الشعر العربى، لأنه قدم إبداعا جديدا مختلفا..
..ويبقى الشعر
كَانتْ تَعْلَمُ
أَنَّ الْمَوْتَ ضَرِيبَةُ عِشْقٍ لِلأَوْطَانْ
أَنَّ الحُبِّ سَيُصْبِحُ يَوْمًا أَجْمَلَ وَشْمِ لِلأَكْفَانْ
أَنَّ الْمَوْتَ سَيُصْبِحُ عُرْسًا..
يُنْسِينَا كُلَّ الْأَحْزَانْ
مِنْ هَذَا الطِّينِ بَدَأْنَا الرَّحْلَةَ
سَوْفَ نَعُودُ لِنَفْسِ الطِّينِ
لِيَطْوِينَا .. صَمْتُ النِّسْيَانْ
هذا الصَّمْتُ…
تَرَعْرَعَ فِيهِ رَحِيقُ الزَّهْرَةِ..
صَارَتْ غُصْنًا فِى بُسْتَانْ
سَرَتِ الرَّعْشَةُ فِى الْأَطْرَافْ
لَوْنُ الدَّمِ تَدَفًّقَ نَهْرًا فِى الشَّطْآنْ
مَلأ الأَرْضَ فَأَصْبَحَ نَبْضًا…
أَصْبَحَ كَوْنًا …
أَصْبَحَ وَطَنًا فِى إِنْسَانْ
كَانتْ تَعْلَمُ
أَنَّ البِذْرَةَ تُعْطِى الشَّجَرَهْ
أَنَّ الشَّجَرَةَ تُعْطِى الثَّمَرَهْ
أَنَّ الثَّمَرَةَ صَارَتْ نَارًا فِى بُرْكَانْ
أَنَّ النَّارَ سَتُصْبِحُ قَبْرًا لِلطَّغْيَانْ
مَاتَتْ .. كَيْ يَبْقَى لُبْنَانْ
< < <
كَانَتْ تَعْلَمُ
أَنَّ الْعِشْقَ سَيَكْبُرُ فِينَا…
ثُمَّ نَمُوتُ بِدَاءِ العِشْقِ…
يُكَفِّننَا ضَوْءُ الْأَشْوَاقْ
يَمْلَؤُنَا العْشقُ ..
فَيُصْبِحُ بَيْنَ دِمَاءِ الْقَلْبِ
فُرُوعًا تَنْمُو فِى الْأَعْمَاقْ
أَشْجَارًا تَكْبُر .. تُصْبِحُ ظِلاً ..
تَغْدُو قَيْدًا فِى الْأَعْنَاقْ
يَمْلُؤنَا العِشْقُ فَنَغْرَقُ فِيهِ .. وَلَا نَدْرِى
هَلْ نَحْمِلُ عِشْقًا .. أَمْ مَوْتًا ؟
فَبَعْضُ العِشْقِ يَكُونُ الْمُوْتَ…
وبعضُ الْمَوْتِ يَكُونُ العِشقَ…
وَبَيْنَ الْمَوْتِ وَبَيْنَ العِشْقِ …
زَمَانٌ يَرْحَلُ فِى اسْتِحْيَاءْ
وَنَبْدُو شَيْئًا .. كَالأَشْيَاءْ
بِطَاقَة عُمْرٍ نَكْتُبُ فِيهَا
لَوْنَ الْعَيْنِ …
شُحُوبَ الوجْهِ
وطُولَ القَامَةٍ .. والأَسْمَاءْ
تاريخ المولِدِ
اسمَ الأُمَ .. واسْمَ الأبِ ..
واسْمَ الزَّوجَةِ .. والأَبْنَاءْ
فَصِيلَةَ دَمٍ نَكْتُبهَا ..
فَقَدْ نَحْتَاجُ وَنَحْنُ نَغُوصُ
بِبَحْرِ الدَّمِ .. لبَعْضٍ دِمَاءْ
نَنْتَظِرُ مَجِيءَ الْمَوْتِ …
وَنَحْنُ نُحَدِّقُ فِى اسْتِرْخَاءْ
وَهَلْ سَنَمُوتُ عَلَى الطُّرُقَاتِ
على البَاراتِ…
أَمَامَ المَسْجِدِ..
فَوْقَ الْمِنْبَرِ .. فِى الصَّحْرَاءْ؟
وَهَلْ سَنَمُوتُ بِدَاءِ العِشْقِ.. بِدَاءِ الخَوْفِ ..
بسجن القَهْرِ ..
وَيَسْحَقُنَا سَيْفُ السُّفَهَاءْ
مَنْ مِنْكمْ يَدْرِى
كَيْفَ يَمُوتْ؟
مَنْ مِنْكُمْ يَعرِفُ …
أَيْنَ يَمُوتْ؟
مَنْ مِنْكُمْ يَمْلِكُ أَنْ يَخْتَارَ
نِهَايَةَ عُمْرِهْ؟
وَهَلْ سَيَمُوتُ مَعَ الجُبَنَاءْ ؟
أَمْ سَيَمُوتُ مَعَ الشَّرَفَاءْ ؟
أَمْ سَيَعِيشُ طَرِيدَ الحُلْمِ
فَيَبْكِى العُمْرَ ..
وَيَبْكِى الأَرْضَ..
ويسبح فى جَهْلِ الجُهَلاْء ؟
< < <
سَنَمُوْتُ جَميِعًا تَطْوِينَا
أَيْدِى الْأَقْدَارْ
وَنَصِيرُ بَقَايَا مِنْ أَخْبَارْ
أَوْ نَغْدُو سِرًا
تَخْتَارُ الحُبَّ .. الأَرْضَ الْوَطَنَ .. الأَهْلَ …
وَلَكِن عُمْرَكَ لَا تَخْتَارْ
لحْظَة مَوْتِكَ لَنْ تَخْتَارْ
لَكُنَّ سَنَاءَ احْتَارَتْ كَيْفَ تَمُوتُ
لِتَبْكِيهَا كُلُّ الْأَشْجَارْ
اخْتَارَتْ أَينَ تَمُوتُ لِتَصْبَحَ عِطْرًا لِلْأَزْهَارْ
اخْتَارَتْ أَنْ تَبْقَى رَسْمًا
فَوْقَ الطُّرُقَاتِ .. عَلَى الْأَنْهَارْ
اخْتَارَتْ أَنْ تَغْدُو وَطَنًا
مصْلوبَ الوَجْهِ بِكُلِّ جِدَارْ
اخْتَارَتْ أَنْ تَبْقَى أَبَدًا
فِى اللَّيْلِ العَاصِفِ ..
بَعْض نَهَارْ
اخْتَارَتْ أَنْ تَبْقَى زَمِنًا
بَيْنَ العُشَاقِ دُمُوعَ مِزَارْ
اخْتَارَتْ .. أَنْ تَمْسَحَ عَنَّا سَنَواتِ العَارْ
اخْتَارَتْ أَنْ تَبْقَى أَبَدًا فِى كُتِبِ العِشْقِ كَقِطْعَةِ نَارْ
اخْتَارَتْ أَنْ تَسْرِيَ نَهْرًا يَكْتَسِحُ المَوْتَى .. كَالإعْصارْ
تَبْقَى فِى الكَوْنِ قَصِيدَةَ عِشْقٍ لَمْ تَعْرِفْ
لغة التُجَّارْ
وَسَنَاءُ اخْتَارَتْ كَيْفَ تَمُوتُ بِدَاءِ الْعِشْقِ
لتَحْمِلَنَا خَلْفَ الْأَسْوارْ
فَمَاذَا نَكْتُبُ بَعْدَ اليَوْمِ ؟…
حِينَ يَصِيرُ الدَّمُ مِدَادًا
فَلْتَسْقُطْ كُلُّ الْأَشْعَارْ
قصيدة «بعض العشق .. يكون الموت» … (إلى سناء محيدلى شهيدة الجنوب اللبنانى) «سنة 1989»