إن الله تعالى لم يخلق إلا الخير، والشهوات إنما جعلت للإنسان لخيره وصلاحه، فحب النفس يوجب الاهتمام بحفظها، وحب المال يوجب السعي والكد لكسبه، والغريزة الجنسية توجب حفظ النسل وهكذا.
ولكن إذا تعدت هذه الشهوات حدودها –وذلك لا يكون إلا بفعل الإنسان نفسه- فإنها تتحول إلى سبب لشقاء الإنسان، فأحياناً تكون ميول الإنسان ورغباته وهواه المنحرف، متجهاً نحو الظلم والتعالي على الناس، وإرهاقهم، وقتلهم، اعتقاداً منه بأن ذلك كمال يشبع رغباته.
فيا مبادراً بالظلم ما أجهلك ، إلى متى تغتر بالذي أمهلك، كأنه قد أهملك ، فكأنك بالموت وقد جاء بك وأنهلك، وإذن بالرحيل وقد أفزعك الملك ، وأسرك البلاء بعد الهوى وعقلك وأنت على وزر عظيم وقد أثقلك وقد أثقلك يا مطمئناً بالفاني ما أكثر زللك، ويا معرضاً عن النصح كأن النصح ما قيل لك، وقد نزلت بهم الفواجع ، وحلت بهم الموجع .
فكم في المجتمع من الظلم بين فئاته يقع على العمال الوافدين الذين لم يعطوا حقوقهم ، وكم من أرملة قتل زوجها ظلماً، وكم من ثكلى فقدت أولادها بغياً ، وكم يتيم قتل أباه غدر وكم من شعب طرد من بلده عسفاً، كم من فقير هدمت بيته أشراً وبطراً ، كم من الظلم يقع من الوالدين على أبنائهما وعلى الوالدين من أبنائهما؟ كم هم الذين يظلمون أقاربهم ويظلمون جيرانهم وزملائهم؟ سواء كان ذلك بالقول أو بالفعل، بأكل حقوقهم أو التقصير في واجباتهم فالأب الظالم لبناته بالتحجير عليهن، أو عضلهم من الزواج لأجل رواتبهن أو رغبة في خدمتهن له.
والزوج الظالم لزوجته ومنعه حقوقها أو ربما الزوجة تظلم نفسها وزوجها بمنعه حقه، أو صده عن بر والديه، أو صلة رحمة ، أو إنفاقه فضل ماله فيما لا يحل وليتق الله الزوج الظالم ويتفكر لو دعت الزوجة عليه في حالة الظلم فلعل الله يقبل دعاءها فيهلك الظالم ولو بعد حين.
أو يظلم الأب لأولاده كأن لا يعدل بينهم في الوصية وكأن يرى منهم المنكر ولا ينكره عليهم أو يأتي إليهم بالمنكرات ويدعوهم إليها كمن يأتي لأولاده بالدش وغيره.
والمسئول في دائرته وسلطانه حين يحابي قرابته على سبيل مصلحة الناس فيه ظلم لنفسه ولأمته.
فليحمد الله المظلوم بعد ظلمه أنه مظلوم وليس ظالم فإذا جاء الظالم نادماً يطلب منه العفو والصفح فليتذكر قول الله عزوجل (( وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم )).
ولا بد أن يأتي يوم لهذه الأمم الظالمة ويتبين لك يا عبد الله أو لولدك ما سيحل بهم من بطش الله، والله فإن الظلم عاقبته وخيمة ، ولا يصدر إلا من النفوس اللئيمة، آثاره متعدية خطيرة.
والمتأمل لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يجد نصوصاً كثيرة قد ذمت الظلم وحذرت العباد منه ، وقد ذكر الله تعالى الظلم في أكثر من 240 موضعاً في كتابة وهذا دليل على خطره.
وقد وصف الراغب الأصفهاني الظالم بأنه: يتعطل عن المكاسب والأعمال، فيأخذ منافع الناس، ولا يعطيهم منفعة، ومن خرج عن تقاضي العدالة بالطبع والخُلق والتخلق والتصنع والرياء والرغبة والرهبة، فقد انسلخ من الإنسانية. وحرم الله الظلم بين عباده، ليحفظوا بذلك دينهم وتستقيم دنياهم، وليصلحوا بترك الظلم آخرتهم وليتم بين العباد التعاون والتراحم بترك الظلم، وليؤدوا الحقوق لله وللخلق . وكم من دعوة مظلوم قصمت ظهر طاغية والعدل أساس الملك، ولا يظلم ربك أحد، كم من بيوت كانت تعج بالظالمين، ماتوا فصارت الديار بلاقع، كم من ظلمة قطع الله دابرهم.
فإن ظلم الظلمة أقبح الظلمات وهي أشد من ظلمة الليل لأن ظلمته مربوطة بظلمه يوم القيامة يوم الهول والنشور.
الظالم جعل الله عقوبته أن يعاقب بآثام من ظلمه، ويكون ذلك عقوبة له على ظلمه، وعلى ما أكتسبه لا أن يكون مؤاخذا بذنب غيره، أو معاقباً على ظلمه ثواب صبره على ما أصابه، فقد قال الله تعالى ((إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب))
قد يعاقب القوم في أجسادهم أو أموالهم واقتصادهم، وقد يعاقبهم في أنفسهم فيذيقهم أنواعاً من الآلام النفسية فيتجرعون الغصص، وقد يكون عذاباً عاماً فتأخذهم صاعقة، أو ريح عاتية، أو صيحة عظيمة، أو حجارة تقصفهم، وقد ينتقم منهم بالغرق، وقد ينتقم منهم بالطوفان، وقد يجمع عليهم أنواعاً من العقوبات، فنسأل الله
أن يعافينا، ولنعلم أيها الإخوة بأن الزنا والربا من أعظم الأسباب التي تسلط العقوبات على المجتمعات، ولا بد من الحذر الشديد من هاتين المعصيتين والكبيرتين العظيمتين بالنهي عنهما والحيلولة دون وقوعهما، وهذا يحتاج إلى كثير من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله وتبصير الناس وسد أبواب الحرام وفتح أبواب الحلال، سواء كان في ما يتعلق بالأموال أو الأعراض؛
لأن هنالك من الناس من أخذتهم الصاعقة والطاغية والرجفة والصيحة وهم ينظرون، وهنالك من عاقبهم الله بالطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم نزيف مستمر، وهنالك من أمطر الله عليهم حجارة من سجيل، وأخذتهم الصيحة وجعل عاليها سافلها وطمس أعينهم، أصحاب الفاحشة، واليوم ينادون بحقوق ومنظمات تدافع عنهم، ويقيمون الحفلات العلنية في البلدان، والله عز وجل يعاقب، ومن ذلك هذه الأمراض التي يذيقهم بها الخزي في الحياة الدنيا قبل الآخرة
إن من أهم أسباب تعطيل حدود الله والانزلاق في مهاوي البغي والضلال هو تسليط الكفار على المؤمنين، حيث إن الكافر يريد أن يطبق ما يعتقده أو ما يلائم مصالحه وشهواته، فيسير بالانسان أو بالمجتمع بما يضره ولا ينفعه، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آبائكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) التوبة: 23.
و- اتباع الهوى: وقد أشار القرآن الكريم إلى أظهر مصاديق الظلم الناتج عن اتباع الهوى:
1: قصد إضلال الناس –لتأمين المصالح- قال تعالى(ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً ليضل الناس بغير علم) الأنعام: 144.
2: منع ذكر اسم الله –إذا تعارض مع المصالح- قال تعالى (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه) البقرة: 114.
3: خذلان الحق وعدم الشهادة له، قال تعالى (ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله) البقرة: 140 وقال تعالى (ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً أو كذب بالحق لما جائه) العنكبوت: 68.
4: عدم اتباع الصدق ومحاولة تكذيبه –خوفاً على المصالح- قال تعالى(فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه) الزمر: 32.
واعتبار كل واحد من هؤلاء أظلم ليس إلا لجهة أن أساس جميع هذه الأعمال هو شيء واحد وهو الشرك والتكذيب بآيات الله.
فإن التوحيد والشرك ليس كما يتصوره البعض من أنهما أمران قلبيان لا يؤثران في عمل الإنسان، بل الأمر بالعكس لأن التوحيد يفتح أفق الإنسان إلى اللانهاية واللامحدود ويخرجه من الفكر الضيق المادي عكس الشرك، ويتبين ذلك من حال العرب قبل الإسلام وبعده حيث كانوا أذلة خاسئين تحت لواء الشرك فتحولوا إلى سادة العالم حينما دخلوا تحت لواء التوحيد.
الركون إلى الظالم
الشرع المقدس حرّم الاعتماد والاتكال على الظالمين، كما قال تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون) هود: 113.
وذلك لأن الركون إليهم يسبب:
أولاً: تقويتهم، وهي توجب توسع دائرة الظلم، حتى أن الإنسان لا يجوز له –مع وجود حاكم الشرع- الرجوع إلى القاضي الظالم حتى لاستنقاذ حقه، وفي الحديث الشريف (التحاكم اليهم تحاكم إلى الطاغوت).
ثانياً: يؤثر في ثقافة الاجتماع ويوجب رفع قبح الظلم ويشوق الناس إليه، لأن الناس عادة يبتعدون عن الشيء القبيح حفظاً على كرامتهم، لكن الشيء إذا فقد قبحه أو صار محبباً فإن الكثيرين سيرتكبونه، وهكذا المحرمات إذا كانت في المجتمع قبيحة فإن المجتمع يبتعد عنها، لكنها إذا تحولت إلى أمر عادي أو أمر محبب فإن ضعاف الإيمان يمارسونها مما يستلزم شياعها وانتشارها ولذا حرمت إشاعة الفاحشة وأي أمر يؤدي إليها، حتى إن الفقهاء ذكروا أن الإقرار بالذنب أو ذكر الإنسان لما ارتكبه من المعاصي يعتبر من المحرمات لإدراجه تحت عنوان إشاعة الفاحشة، وذلك لأنه يكسر الحاجز النفسي بين الناس وبين المعصية. وهكذا الركون إلى الظالم يوجب زوال قبح الظلم وإشاعته.
ولذا فإن القرآن الكريم يحث الناس على مقارعة الظلم وعدم الخوف من الظالمين، قال تعالى: (إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني) البقرة: 150، فينبغي أن لا يخاف من الظالم بل يخاف من الله تعالى فيطيعه حينما يأمره بترك الظلم ومحاربته.
كما إن الإسلام يأمر بفضح الظالم والمجاهرة ضده، لأن ذلك يوجب بقاء قبح الظلم ولعله يوجب ارتداع الظالم عن ذلك الظلم أو عن توسيع دائرة الظلم.
وفي القرآن الكريم: (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) النساء: 148. وكما أنه يجب مقارعة الظلم كذلك يجب نصر من يحارب الظلمة قال تعالى في صفات المؤمنين: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) الشورى: 39، أي يطلبون النصر من المؤمنين. وذلك يستلزم النصر وإلا كان لغواً.
وكما يحرم الركون إلى الظالمين، كذلك يحرم الدفاع عنهم وفي القرآن الكريم (قال رب بما انعمت عليّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين) القصص: 17.
عاقبة الظلم
الظلم –حاله حال سائر القبائح- لا تكون عاقبته إلا سيئة، في الدنيا قبل الآخرة، ومنها:
1) كل ظلم يرجع إلى نفس الظالم في آخر المطاف، لأن الظلم يبتدأ حينما يتنكر الإنسان للملكات الخيرة الموجودة في ذاته، وهذا التنكر سيجر الويلات على الإنسان.
ثم إن الظلم إذا عم –ونتيجة للارتباطات الاجتماعية- فإنه يشمل الظالم، وكمثال على ذلك، إن الإنسان علّم الناس الكذب فإنهم سيكذبون عليه يوماً ما.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان