كان قيام الدراسات المهتمة بالأمن القومي متوافقاً مع ظروف عالمية سياسية وعسكرية جديدة أعقبت الحرب العالمية الثانية والتوازنات والتكتلات والمحاور التي نتجت عن الحرب بين القوى الدولية، بالإضافة إلى الانتشار الكثيف للأسلحة والتطور النوعي الذي شهدته هذه الأخيرة، والذي أدى إلى تعديلات في النظام الدفاعي العالمي وثوابته التقليدية الموروثة، وفرض رؤية جديدة للأمن، وتحديداً جديداً للمجال الأمني للدول . وقد تحمّل المفهوم في نشأته الغربية الأمريكية بأهداف سياسية، حيث برز كمحور للسياسات الخارجية للدول العظمى في فترة الحرب الباردة والاستقطاب الدولي.
وعلى الرغم من أن مصطلح الأمن القومي قد شاع بعد الحرب العالمية الثانية، إلا أن جذوره تعود إلى القرن السابع عشر، وبخاصة بعد معاهدة وستفاليا عام 1648 التي أسست لولادة الدولة القومية أو الدولة – الأمة Nation – State وشكلت حقبة الحرب الباردة الإطار والمناخ اللذين تحركت فيهما محاولات صياغة مقاربات نظرية وأطر مؤسساتية وصولاً إلى استخدام تعبير “إستراتيجية الأمن القومي”، وسادت مصطلحات الحرب الباردة مثل الاحتواء والردع والتوازن والتعايش السلمي كعناوين بارزة في هذه المقاربات بهدف تحقيق الأمن والسلم وتجنب الحروب المدمرة التي شهدها النصف الأول من القرن العشرين.
نشأت تبعاً لذلك مؤسسات أكاديمية مهتمة بمسائل الأمن القومي: مصادره، مقوماته، إجراءات ضمان حمايته، من معاهد ومراكز بحث تنتمي إلى جامعات ومؤسسات علمية وإعلامية ومجلات متخصصة وإدارات مؤسسات مرتبطة بالقرار السياسي الرسمي. ويشكل مجلس الأمن القومي في الولايات المتحدة الأمريكية النموذج الأول والأمثل لهذه المؤسسات، حيث جسّد هذا المجلس التعريف الذي طرحه والتر ليبمان عن الأمن القومي بأنه ( قدرة الدولة على تحقيق أمنها بحيث لا تضطر إلى التضحية بمصالحها المشروعة لتفادي الحرب، والقدرة على حماية تلك المصالح إذا ما اضطرت عن طريق الحرب) .
وقد بدأ التشكيل التنظيمي المؤسسي لمصطلح الأمن القومي بصدور قانون الأمن القومي لعام 1947 عن الكونجرس الأمريكي، أما بقية دول العالم فقد وضعت عنواناً آخر هو “الدراسات الإستراتيجية” على الأدبيات التي عالجته بوصفها اجتهادات في التخطيط السياسي النشط حول المستقبل، بدلاً من اجتهادات تعني ضمنياً محاولة لصياغة أجوبة أو ردود فعل بقصد حماية السيادة. وكأي مصطلح أو مفهوم، فإن مفهوم الأمن القومي لا يمكن التوصل إلى تحديد دقيق له خارج نطاق المكان والزمان الذي يتحرك من خلاله، وهو يخضع دائماً للتعديل والتطوير انسجاماً مع المتغيرات والعوامل التي تؤثر في بروزه إلى مسرح التداول.
وهكذا أصبح الأمن القومي فرعاً جديداً في العلوم السياسية، حيث امتلك ثقافة وتوفرت له المادة والهدف العلمي (تحقيق الأمن) وإمكانية الخضوع لمناهج بحث علمية، بالإضافة إلى كونه حلقة وصل بين علوم عديدة، فالأمن القومي ظاهرة مركبة متعددة الأبعاد تربط في دراستها بين علوم الاجتماع والاقتصاد والعلاقات الدولية ونظم الحكم وغيرها، كما تتطلب الاستفادة من المناهج المختلفة وقدراً أكبر من التكامل المنهاجي. وقد انتقل الاهتمام بظاهرة الأمن القومي من الغرب إلى دول الجنوب. ويذكر الباحثون عدة أسباب لزيادة الاهتمام بدراسة الأمن القومي في مختلف دول العالم، بما يمكن اعتباره ظاهرة، ومن أهم تلك الأسباب:
1- التوسع في مفهوم المصلحة القومية ليشمل مسألة ضمان الرفاهية بما يعنيه ذلك من تأمين لمصادر الموارد، ومن ثم برز مفهوم الأمن القومي كتعبير عن كل من الرفاهية من ناحية، ومحاولة ضمان مصادرها الخارجية من ناحية أخرى، وحماية الترتيبات الداخلية التي تدفع إلى زيادة معدل الرفاهية من ناحية ثالثة.
2- ازدياد معدل العنف وتصاعد حدة الصراعات المباشرة والتي قد تتطور إلى حروب، ومن ثم سار الاهتمام بالأمن القومي في موجات ارتبطت بتزايد الصراعات على المستويين الإقليمي والدولي.
3- ازدياد الشعور لدى دول الجنوب بنوعين من التهديدات المتصلة بأمنها القومي. فمن ناحية، تُعد الديون الخارجية المستحقة عليها تهديداً لأمنها السياسي والاقتصادي، وتحد بالضرورة من حرية اتخاذ القرارات الإستراتيجية. ومن ناحية أخرى، تخشى الدول الصغرى من احتمالات قيام الدول الكبرى بإساءة توظيف المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة ليس فقط لتحقيق مصالحها، ولكن للإضرار بمصالح الدول الصغرى وأمنها القومي.
4- تزايد الإحساس بالقلق والتوتر الداخلي والذي يمكن أن يتحول إلى مظاهر عديدة من عدم الاستقرار وعدم الأمن في الدول الصغرى، فلا تزال تلك الدول تعاني من مشكلات كبرى في عملية الإنتاج وكذلك عملية التوزيع.
5- يُثار الاهتمام بظاهرة الأمن القومي عند التحول من نظام الدولة القومية إلى نظام أوسع وأكثر شمولاً كالنظام الفيدرالي، أو التجمعات الاقتصادية الدولية.
6- يُثار موضوع الأمن القومي في حالة تفكك الدول الكبرى وخاصة الفيدرالية إلى دول قومية مستقلة ذات سيادة.
يتم في الجزء التالي دراسة مختلف الجوانب المتعلقة بتعريف مفهوم الأمن القومي وتحديد أبعاده، وذلك من خلال دراسة عدة موضوعات، من بينها تعريف مفهوم الأمن القومي، واستعراض أهم مدارس الأمن القومي، أي النظريات والمدارس المختلفة التي تناولت دراسة الأمن القومي من زوايا مختلفة: (عسكرية، اقتصادية، مجتمعية ….الخ)، بالإضافة إلى دراسة المستويات المتعددة للأمن القومي، سواء على المستوى الداخلي أم على المستوى الخارجي (الإقليمي والعالمي)، وحدود التداخل والتشابك بين تلك المستويات.
أولاً: ضبط مصطلح الأمن القومي وخلفياته:
يتم فيما يلي تقديم تعريف إجرائي لمفهوم الأمن القومي وذلك من خلال التعريف اللغوي والاصطلاحي للكلمتين اللتين يتكون منهما المفهوم:
1- التعريف اللغوي والاصطلاحي لمفهوم الأمن:
الأمن في اللغة هو نقيض الخوف. والفعل الثلاثي أمِن أي حقق الأمان. قال ابن منظور: “أمنت فأنا آمن، وأمنت غيري أي ضد أخفته، فالأمن ضد الخوف، والأمانة ضد الخيانة، والإيمان ضد الكفر، والإيمان بمعنى التصديق، وضده التكذيب، فيقال آمن به قوم وكذب به قوم”. وقد ورد المفهوم في القرآن الكريم بقوله تعالى: “فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” .
تتفق معظم الأدبيات التي قامت بتعريف مفهوم الأمن على أن المفهوم يشير عموماً إلى تحقيق حالة من انعدام الشعور بالخوف، وإحلال شعور الأمان ببعديه النفسي والجسدي محل الشعور بالخوف، والشعور بالأمان قيمة إنسانية كونية مرغوبة لا تقتصر على فئة اجتماعية معينة أو مرتبطة بمستوى الدخل، فالفقير مثل الغني يحتاج إلى الشعور بالأمان ويسعى إلى تحقيقه وإن اختلفت درجات المتمتع به، ونظراً لصعوبة تحقيق الأمان الكامل، فقد أصبح يُنظر للأمن على أنه مسألة نسبية مرهونة بالسعي لتعزيز أفضل الشروط لتوافره.
2- التعريف اللغوي والاصطلاحي لمفهوم القومية:
المادة اللغوية لكلمة القومية هي (ق.و.م)، والقوم يعني الرجال دون النساء، وهو لفظ جمعي لا واحد له، وربما يدخل النساء فيه على سبيل التبع، وجمع القوم أقوام. أما الفعل الثلاثي منها قام، والرباعي أقام، ومنها يأتي معني الارتباط بالمكان، والقوم هم الجماعة التي ترتبط بمكان ما وتقيم فيه. وعندما يوجد قوم من الناس في أرض واحدة ويمارس أفراده الحياة بثقافة واحدة توجد بينهم علاقات أخرى قوية تدور حول المصلحة المشتركة والتضامن والنسب، وعلاقات اجتماعية تجعلهم يداً واحدة. وتلك الروابط هي التي توجد ما يُسمى بالقومية.
وفكرة القومية قديمة قدم الاجتماع البشري. وقد عبّر عنها ابن خلدون بفكرة العصبية. وعناصر القومية لدى أغلب مفكري القومية العرب هي الأرض المشتركة، والتاريخ، والثقافة المشتركة، والمصالح المشتركة، أما قضية تأسيس القومية أو بالأحرى بناء الدولة القومية فهي القضية محل الاختلاف، فهناك رأيان حول علاقة القومية بالدولة، الأول يرى أن الدولة تجسيد لمعنى القومية . والرأي الثاني يفصل بين القومية والدولة القومية . ويرجع ذلك الخلاف إلى أن القومية كيان اجتماعي تتوافر فيه المقومات الأساسية السابقة. ومن الطبيعي أن يتجه ذلك الكيان إلى إنشاء نظام سياسي يصبح وعاء له، إلا أن ذلك لم يحدث دائماً بالضرورة في كل القوميات، فهناك قومية مجزأة، أو مستوعبة بجانب أخرى في دولة واحدة، وهناك قومية بلا دولة. فالقومية تنتمي إلى طائفة من الظواهر التي تتعلق بعملية تحديد هوية أو انتماء جماعات من الناس. وتتمايز عملية تكوين الهوية أو الانتماء إلى مستويين: ذاتي وموضوعي. ويشير المستوى الذاتي إلى اللغة والتاريخ والمصالح المشتركة. ويشير المستوى الموضوعي إلى الإقليم السياسي ونظام الدولة، وعندئذ تنشأ الدولة القومية، تعبيراً عن كيان اجتماعي تجسد في وعاء سياسي هو الدولة.
3- أهم تعريفات الأمن القومي:
على الرغم من استخدامه على نطاق واسع، فإن مفهوم “الأمن القومي” يعني أشياء مختلفة لأشخاص مختلفين. فتقليدياً كان يتم تعريف الأمن القومي على أنه الحماية من الهجوم الخارجي، وبالتالي فقد تم النظر إليه بشكل أساسي على أنه يعني دفاعات عسكرية في مواجهة تهديدات عسكرية. وقد ثبت أن هذه الرؤية ضيقة جيداً، فالأمن القومي يتضمن ما هو أكثر من تجهيز قوات مسلحة واستخدامها.
والأكثر من ذلك، فإن مثل تلك الرؤية قد تجعل المرء يعتقد بأن أفضل طريق لزيادة الأمن هو زيادة القوة العسكرية. وعلى الرغم من أن القوة العسكرية هي مكون مهم جداً في الأمن، فإنها تُعد جانباً واحداً من جوانب الأمن. فالتاريخ ملئ في واقع الأمر بأمثلة لسباقات تسلح تسببت في إضعاف الأمن وليس في تقويته.
تبدأ مثل هذه السباقات عادة بقيام دولة بتقوية قوتها العسكرية لأغراض دفاعية من أجل أن تشعر أنها أكثر أمناً. ويؤدي هذا الفعل بالدول المجاورة إلى أن تشعر بأنها مهددة، وترد على ذلك بأن تزيد من قدراتها العسكرية، مما يجعل الدولة الأولى تشعر أنها أقل أمناً فيستمر السباق.
أدى ذلك إلى بروز الحاجة إلى صياغة تعريف أوسع للأمن القومي يتضمن الأبعاد الاقتصادية والدبلوماسية والاجتماعية، بالإضافة إلى البعد العسكري. وقد قدم أرنولد ولفرز مثل هذا التعريف عندما قال: (يقيس الأمن بمعناه الموضوعي مدى غياب التهديدات الموجهة للقيم المكتسبة، ويشير بمعناه الذاتي إلى غياب الخوف من أن تتعرض تلك القيم إلى هجوم).
يوضح هذا التعريف أنه على الرغم من أن الأمن مرتبط مباشرة بالقيم، فإنه ليس قيمة في حد ذاته، وإنما موقف يسمح لدولة ما بالحفاظ على قيمها، وبالتالي فإن الأفعال التي تجعل أمة ما أكثر أمناً ولكنها تحط من قيمها لا نفع لها. ومن الصعب قياس الأمن بأي طريقة موضوعية، ولذلك فإن الأمن يصبح تقييماً مبنياً على مفاهيم لا تتعلق بالقوة والضعف، وإنما أيضاً بالقدرات والنوايا الخاصة بالتهديدات المدركة.
ويقود عدم الثقة بشأن المستوى الحقيقي للتهديد إلى التخطيط للبديل الأسوأ بسبب النتائج القاسية للفشل الأمني، وحتى إذا كانت المفاهيم دقيقة، فإن الأمر يتحدى القياس المطلق، لأنه موقف نسبي. فالأمن يتم قياسه نسبة إلى التهديدات القائمة والمحتملة، ولأنه من غير الممكن تحقيق أمن مطلق ضد كل التهديدات المحتملة، فيجب تحديد مستويات عدم الأمن التي يمكن أن تكون مقبولة. وأخيراً، فمن المهم إدراك أن الأمن القومي ليس موقفاً جامداً يوجد في فراغ، وإنما يتم تحديده في ضوء كل من البيئتين الدولية والمحلية، وكل منهما يتغير بشكل دائم.
يعرف تريجر وكرننبرج الأمن القومي بأنه “ذلك الجزء من سياسة الحكومة الذي يستهدف خلق الظروف المواتية لحماية القيم الحيوية”. ويعرفه هنري كيسنجر بأنه يعني “أية تصرفات يسعى المجتمع – عن طريقها – إلى حفظ حقه في البقاء . أما روبرت ماكنمارا فيرى أن “الأمن هو التنمية، وبدون تنمية لا يمكن أن يوجد أمن، والدول التي لا تنمو في الواقع، لا يمكن ببساطة أن تظل آمنة .
ويوضح تنوع تعريفات مفهوم الأمن القومي أن هناك قدراً من التخلف النظري للمفهوم. ويذكر باري بوزان عدة أسباب لذلك التخلف، وهي :
أ- الأمن القومي مفهوم معقد ومركب لدرجة يصعب معها جذب الدارسين إليه، حيث انصرفوا إلى مفاهيم أكثر مرونة، أي أنه مفهوم مثير للخلاف والاختلاف.
ب- التشابك بين الأمن القومي ومفهوم القوة، لاسيما بعد بروز المدرسة الواقعية التي رسمت فكرة التنافس من أجل القوة في العلاقات الدولية، وبحيث يُنظر للأمن على أنه مشتق من القوة وأنه أداة لتعظيمها.
ج- ظهور موجة من المثاليين ترفض المدرسة الواقعية وتطرح هدفاً بديلاً للأمن القومي وهو السلام.
د- غلبة الدراسات الإستراتيجية في مجال الأمن القومي واهتمامها بالجوانب العسكرية للأمن، وتكريسه لخدمة المتطلبات الدفاعية والحفاظ على الوضع القائم، مما أسهم في تحجيم الأفق التحليلي والبعد النظري للمفهوم.
هـ- دور رجال السياسة في تكريس غموض المفهوم، لتوفير فرصة أكبر من المناورة عليه سواء في أغراض الاستهلاك الداخلي أم الصراع الخارجي.
دكتور القانون العام
محكم دولي معتمد
وعضو المجلس الأعلى لحقوق الانسان