والرضا عن قضاء الله* من ثمرات المحبة والمعرفة ، فمن شأن المُحِبّ أن يَرْضَى بفعل محبوبه حلواً كان أو مُرّاً، جاء فى الحديث القدسى :
” من لم يرض بقضائِى ولم يصبر على بلائِى فليلتمس رباً سواى “، وقال تعالى ” لا يُسألُ عمّا يفعل وهم يُسألون “، وقال صلى الله عليه وسلم : ” إن الله إذا أحبّ قوماً ابتلاهم فمن رضِى فله الرضى ومن سخط فله السخط “.
على المؤمن أن يعلم يقيناً أن الله هو الذى يهدِى ويُضلّ، ويُشقِى ويُسعد، ويعطِى ويمنع، ويخفض ويرفع، ويضرّ وينفع، وكلها تجليات لحضرات الأسماء الإلهية الفاعلة فى الوجود، فيجب على الإنسان أن لا يعترض على الله فى شئ من أفعاله ظاهراً أو باطناً، فلا يقول بأى ذنب استحق فلانٌ ما جرى عليه؟ أو لِمَا كان ذلك؟ فمن أجهل ممّن يعترض على الله فى ملكه وينازعه فى سلطانه، وهو مع ذلك يعلم أن الله هو المنفرد بالخلق والأمر والحكم والتدبير، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، بل يجب على المؤمن الإعتقاد بأن جميع أفعال الله تعالى وقعت على وجه لا أحكم ولا أعدل ولا أفضل ولا أكمل منه.
من أفعال الله ما يلائمك كالصحة والغنى، فيجب أن ترضى بما قسم لك ولا تسخط إذا نظرت لمن فُضِّل عليك فى ذلك، فقد اختار لك ما هو الأصلح والأنسب، قال تعالى ” وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ “، ويقول صلى الله عليه وسلم : ” أتانِى جبريل فقال: يا محمد ربك يقرأ عليك السلام ويقول إن من عبادِى من لا يصلح إيمانه إلا بالغنى، ولو أفقرته لكفر، وإن من عبادِى من لا يصلح إيمانه إلا بالقِلّة، ولو أغنيته لكفر، وإن من عبادِى من لا يصلح إيمانه إلا بالسُقْم، ولو أصححته لكفر، وإن من عبادِى من لا يصح إيمانه إلا بالصحة، ولو أسقمته لكفر “، ومن أفعال الله ما لا يلائمك كالفاقة والمرض فلا تتبرّم من ذلك أو تجزع منه، بل الأكمل لك أن ترضى وتُسلِّم، فإن لم تستطع فلتصبر وتحتسب.
ليس من الرضا ما يجده البعض من طمئنينة عند ترك بعض المأمورات وارتكاب بعض المحظورات، فإن فعل المعاصِى وترك الطاعات ممّا يُسخط اللهَ فكيف بشيءٍ لا يرضَى اللهُ به، قال تعالى :
” إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ۖ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ۚإِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ “.
الرضا عن الله والنفس لا يجتمعان فى موطن واحد، قال الإمام الغزالِى رضِى اللهُ عنه “الرضا هو أن ترضى بما يفعل اللهُ باطناً وتفعل ما يرضيه ظاهراً، فإذا أراد العبدُ أن يعرف ما عنده من الرضى فليلتمسه عند نزول المصائب وورود الفاقات واشتداد الأمراض، فسوف يجده هناك أو يفقده”.
إذا قيل لبعض العصاة مالكم لا تؤدون الطاعات وترتكبون المُحرمات؟ قالوا هذا شيءٌ قد قضاه اللهُ علينا وقدّره لنا ولا محيص لنا عنه وإنما نحن عبيدٌ مقهورون، وهذا هو مذهب الجبْرية ، ومنتحله بلسان حاله يزعم أن لا فائدة فى إرسال الرسل وإنزال الكتب، وعجيب أن يصدر هذا ممّن يدّعِى الإيمان احتجاجاً لنفسه على ربه، قال تعالى :
” قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ “، فكيف يرضى المؤمنُ لنفسه أن يتشبّه بالمشركين القائل الله عنهم ” سَيَقُولُ ٱلَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلَآ ءَابَآؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَىيءٍ ۚ كَذَٰلِكَ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ حَتَّىٰ ذَاقُواْ بَأْسَنَا “، أو لم يسمع ما ردّ اللهُ به عليهم ” قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍۢ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ ۖ إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ “، ثم أنه لا يسع المشركين إذا رجعوا إلى الله أن يحتجّوا بهذه الحجة الداحضة عنده سبحانه بل يقولون ” ربّنا غلَبَت علينا شِقْوتُنا وكُنّا قوماً ضالِّين، ربّنا أبْصَرْنا وسمِعْنَا فارْجِعْنَا نعْمَل صالحاً إنّا مُوقِنون “.
إن الدعاء والإلحاح فيه لا يقدح فى الرضا بل هو منه، والدعاء مُعْرِبٌ عن التحقّق بالتوحيد وهو لسان العبوديّة وعنوان التحقّق بالعجز والإضطرار والذلّ والإفتقار، ومن تحقّق بهذه الصفات عرف ووصل وتقرْب إلى الله غاية القرب، قال صلى الله عليه وسلم ” الدعاء هو العبادة وهو سلاح المؤمن ونور السماوات والأرض، ومن لا يسألوا اللهَ يغضب عليهم “، فالخلق تغضب حين يُسألون والله يغضب حين لا يُسأل.
يقول تعالى ” وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ “، ” وَقَالَ رَبُّكُمُ ٱدْعُونِىٓ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ “.
اللهم آتنا من لدنك أجراً عظيماً واهدنا صراطاً مستقيماً واجعلنا ممّن أنعمتَ عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وحسُن أولئك رفيقاً، ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً، والحمد لله أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً، “هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ”، ما شاء اللهُ لا قوة إلا بالله العلىّ العظيم، الحمد لله الذى هدانا لهذا وما كُنّا لنهتدِى لولا أن هدانا اللهُ.
واللهُ يقولُ الحقَّ وهو يهْدِ السبيل.