ثلاثية العزبي وثلاثية نجيب محفوظ!
اذا كان اديب نوبل الكبير نجيب محفوظ استطاع أن يقدم لنا واحدة من أجمل الثلاثيات في عالم الرواية والأدب بروائعه السكرية وبين القصرين وقصر الشوق.. فإن الاستاذ محمد العزبي استطاع أن ينحت ثلاثية صحفية لا تقل جمالا وثراء وابهارا في عوالم ودهاليز الصحافة الشائكة والعنيدة والكتابة الصحفية أوالادب الصحافي عامة..ابتداء من” صحفيون غلابة” و”الصحافة والحكم”و”هل يدخل الصحفيون الجنة؟!.
صحيح أن فن المقال كان حاكما الاان براعة العزبي وأسلوبه السهل الممتنع وما يملكه من قدرة على الحكي فهو رجل حكاء ممتع يمتلك رؤية وصاحب طريقة مدهشة في السرد القصصي الاخباري التحليلي يقفز بك بين كل الدروب والدهاليز برشاقة نغبطه عليها. يصنع حبكة خاصة به من مجموعة قصاقيص وعناوين شاردة وواردة يدخل بك في سياحة عميقة وأحيانا سطحية سهلة عندما تحتاج الأمور إلى قدر من الخفة واللطافة تصل حد الظرف الجميل احيانا أو الشكشكة إذا لزم الأمر يتركك تضحك أو تبكي واحيانا يغلي دماغك من شدة التركيز مع كثرة الاقواس المفتوحة لتغذية الحكاية..
اذا كان نجيب محفوظ قد نجح في تقديم عمليات تشريح مقطعية في الحارة المصرية وفي البناء الاجتماعي للأسرة والمتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها في بنائه الفنى لأحداث وشخصيات الثلاثية من خلال اسرة السيد عبد الجواد فإن العزبي قدم تشريحات مقطعية معقدة للاسرة الصحفية من شرفة ودهاليز عالم الصحافة ومن خلال تقديم صور حية نابضة من واقع المجتمع بكل تفاعلاته وفي كل طبقاته الغنية والفقيرة والمتوسطة وماتحت الخط الملعون.
الصحافة وعالمها كانت تحت المجهر رصد المتغيرات والتفاعلات على مدى عقود عايشها وتفاعل معها وانفعل بها وعليها منذ ثورة يوليو.. ومع بدء عمله في بدايات مجلة اخر ساعة ثم انتقاله الى الجمهورية جريدة الثورة مع بداية تأسيسها وظل معها حتى اليوم كان شاهد عيان بلغة المصادر الصحفية وكان محققا ومحللا وناقلا امينا ومدافعا صادقا عن كل ما يؤمن به وحريصا على مهنية تضربها العواصف ولم تسلم من الصواعق وباتت على شفا جرف هار ولا تزال تصارع طواحين الهواء الفاضي.
من المفارقات ان كليهما محفوظ والعزبي لم يقصدا وضع ثلاثية ولم يخططا لذلك وجاءت المسألة عفوية قدرية فقد كتب نجيب روايته وثلثها الناشر. وكذا الحال مع حكايات العزبي وعيونه.
الممتع في الموضوع أن العزبي نجح بطريقته في أن يرغمك على أن تلتهم طبخته بكل نهم فقد احكم حركته بصورة لا تسمح لك بأن تطرف عينك بعيدا أو تبعد عن الحكاية أو الرواية التي يقدمها بعناية يجمع أشتاتها من كل المصادر والموائد حتى غير المعروفة أو المشهورة..لابد من الاعتراف أن الرجل يمتلك قدرة رهيبة وعجيبة على القراءة والمتابعة من عشرات بل مئات الصحف والمجلات مصرية أو عربية أو أجنبية طالما تعرضت للقضية ويعرضها في كبسولة رائعة شهية تثير حفيظتك على الكيفية إلى فعلها العزبي.
ولعله هنا يقدم عددا من أهم وأخطر الدروس لكل صحفي وإعلامي عموما. كيف تقرا الصحف فضلا عن الكتب كيف تتعامل مع الآخر كيف تخدم قضيتك كيف تبحث عن المعلومة بلا كلل أو ملل من المصدر نفسه او من المقربين او من كتاب لم يبق منه الا العنوان من سالف العصر والاوان حتى تقدم موضوعا أو مقالا مكتملا يرضيك ويرضي القارئ..
اذا كانت الأجزاء الاولى من الثلاثية حافلة بجوانب مهمة عن الصحافة والصحفيين وتشابك العلاقات مع الجهات الأخرى من اعلى السلم الى ادناه فإن الجزء الثالث هل يدخل الصحفيون الجنة حمل العديد من الهموم وجاءت الشحنات الخاصة بالمهنة واربابها والمتغيرات الصعبة التى ضربتها متدفقة مليئة بحالات من الشجن والخوف الكبير مما يجرى على ارض الواقع ومما يدبر بليل ليس من الان فقط ولكنه تاريخ طويل وصراع مرير عبر عنه في ايجاز شديد ومن اول سطر في مقدمته التى وصفها وعنونها بانها لم تكن على البال الصحافة والسلطة اخوة اعداء يتربص كل منهما بالآخر رصاص بالكلمات وبطش بغير قانون..اعتقلنى عبد الناصر واحببته فصلني السادات فكرهته ولكني اقرا له الفاتحة كلما ذهبت الى سيناء ولم اكره مبارك..
براعة العزبي في “هل يدخل الصحفيون الجنة؟” بدأت من قبل المقدمة من العنوان الملفت والغلاف المحير. فهو في الحقيقة لا يسأل عن حكم فقهي فهو رجل من اسرة لها جذور ازهرية والمسألة لديه محسومة ولا تقلقه وهو يعرف مصيرهم ومتى يدخلون والشروط المحققة لذلك الا ان الغلاف الذي صممه عبدالرحمن الصواف القى بظلال رهيبة وبالعديد من الاسقاطات وربما تجاوز التلميحات حين جعله على ارضية باللون الاحمر الناري..ربما اوحى بالحكم من حيث لم يرد وربما هي رسالة أنك ستقرأ الكتاب على نار ربما لا تكون هادئة!
كنت اظن ان امر قراءة الكتاب سهلة باعتباري من قراء ومتابعي الاستاذ العزبي ومن مريديه لكني فوجئت بما لم يكن في الحسبان..
انت أمام كتاب مريع يحدثك عن اهوال ايام الصحافة وعوالمهاالظاهرية والباطنية. وحكاياتها الممتدة بلا حساب على سرر مصفوفة أو ابراش ملفوفة..في كل لحظاتها.. في غرفة الانعاش وساعات ماقبل الاحتضار وحالات الحشرجة الصعبة وقرارت الموت غيرالرحيم احيانا وحركات وتقلبات المهنة واللامهنيين واشياء تدع الحليم حيرانا لاتفيد معها اي جبهات للإنقاذ او جماعات لتصحيح المسار وفي كثير من الاحيان تجد نفسك امام قاعدة قضي الامر الذي فيه تستفتيان دون ان تعرف مصيرك هل ستدخل الجنة ام ستلقى في النار؟!
اتذكر اهم قاعدة يحافظ عليها العزبي تعلمتها منه واتمسك بها ولا اتخلى عنها حتى في اوقات الشدة والخاصة بالعنوان تعلمت قاعدة كفاءة العنوان سواء للمقال اوالخبر اوالتحقيق او القصة الاخبارية وهي مسألة ليست هينة ولايجيدها الا القليل في عالم المهنة شديد الاضطراب.والتى كانت تسمى سابقا صاحبة الجلالة على حد تعبيره في عنوان الفصل الاول من الكتاب اما الفصلين الاخرين فخصصهما لحكايته مع عيون بهية وعيون مصرية .
لايترك العزبي لك لحظة لالتقاط الأنفاس وانت تتابع مجريات الاهوال والعواصف والانواء..تحبس أنفاسك احيانا يرغمك على الابتسام حينا..ما أن يشرد بك الذهن لحظة حتى تفاجأ بشلوت أو سلسلة متتابعة من المواقف والافيهات والقفشات والقلشات الممتعة والفريدة. يتنقل بك بعفوية شديدة وبساطة بين قضايا متعددة يربطها برباط العزبي المتين خلطة عجيبة في مقال او حكاية او نظرة لا يقدر عليها الا العزبي سياسة دين اقتصاد علاقات انسانية موقف راي عربي او دولي مايحدث في البيت الصغير والاسرة والابناء والبرلمان وحكاياته وادواره الحاضرة والغائبة وبرلمانيو زمان والان وحكاوي ليست كحكاوي القهاوي مشحونة بالألم وتبحث عن امل دائما.
الكتاب يربو على المائتين وتسعين صفحة من الحجم المتوسط عن دارنشر ريشة يغمرك بكثير من الصحافة وكثير من السياسة وكثير من الادب والاخلاقيات والانسانيات ولا تمل من قراءته والاستمتاع باستعادة قراءته مرات ومرات..
ويبقى السؤال:هل في الجنة صحافة؟ هل يحتاج أهل الجنة للصحافة والصحفيين ام أن الجنة بلا صحافة اواعلام؟!!
والله المستعان.
Megahedkh@hotmail.com