فقد كان الفن أعظم عناصر هذه الحضارة؛ فنحن نجد في هذه البلاد، وفي عهد يكاد يكون عهد بداية الحضارات ، فناً قوياً ناضجاً أرقى من فن أية دولة حديثة ، ولا يضارعه إلا فن اليونان. لقد كان ما امتازت به مصر في أول عهودها من عزلة وسلم ، ثم ما تدفق فيها بعدئذ من مغانم الظلم والحرب في عهد تحتمس الثالث و رمسيس الثاني ، مما أتاح لها الفرصة المواتية والوسائل الكفيلة بتشييد المباني الضخمة، ونحت التماثيل المتينة ، والبراعة في عدة فنون أخرى صغيرة ، كادت تبلغ حد الكمال في هذا العهد السحيق. وإن المرء ليقف حائراً مشدوها لا يكاد يصدق ما وضعه الباحثون من نظريات لتطور الرقي البشري إذا نظر إلى منتجات الفن المصري القديم.
وكانت العمارة أفخم الفنون المصرية على الإطلاق، وذلك لما تجمع فيها من روعة وضخامة وصلابة وجمال ومنفعة. وقد بدأ هذا الفن بداية متواضعة بتزيين المقابر ونقش الوجهة الخارجية لجدران المنازل. وكانت كثرة المساكن تبنى من الطين تتخللها في بعض الأحيان أعمال بسيطة من الخشب (كالنوافذ الشبكية اليابانية أو الأبواب الجميلة الحفر)، والسقف المقامة على جذوع النخل السهلة العلاج. وكان يحيط بالدار عادة سور يضم فناء، تصعد منه درج إلى سطح البيت ؛ ومنه ينزل السكان إلى الحجرات. وكان للموسرين من الأهلين حدائق خاصة يعنون بتنسيقها؛ وكان في الحواضر حدائق عامة للفقراء، ولا يكاد يخلو بيت من أزهار الزينة.
وكانت جدران المنزل تزين من الداخل بحُصر ملوّنة، وتفرش أرضه بالطنافس ، إذا كان رب الدار ذا سعة. وكان السكان يفضلون الجلوس على هذه الطنافس عن الجلوس على الكراسي وكان المصريون في عهد الدولة القديمة يتناولون الطعام وهم جالسون مرتبعون وأمامهم موائد لا يزيد إرتفاعها على ست بوصات كما يفعل اليابانيون في هذه الأيام ، وكانوا يأكلون بأيديهم على طريقة شكسبير ؛ فلما كان عهد الإمبراطورية وقل ثمن العبيد أصبح أفراد الطبقات العليا يجلسون على كراسي عالية ذات وسائد ، ويقدم لهم خدمهم أصناف الطعام صنفاً بعد صنف.
بذلت المجتمعات التي عاشت في الشرق الأدنى القديم (مصر وبلاد الرافدين خصوصًا) مجهودًا كبيرًا في سبيل التوصل إلى نظام توقيت سليم يتيح تنظيم الشؤون الاقتصادية والسياسية.
ومنذ عصور قديمة كان البابليون يقسمون الأسبوع إلى سبعة أيام، والفلك إلى دائرة أبراج (حزام وهمي في السماء يشمل مسالك الشمس والقمر والنجوم). وكانت دائرة الأبراج بإشاراتها الإثنتي عشرة والمقسّمة كل منها إلى 30 درجة، بمثابة أداة لرصد حركة الشمس والقمر والكواكب.
راقب البابليون الأجرام السماوية وتمكنوا من معرفة سير النجوم والكواكب، وكان أفضل ما اكتشفوه في هذا الحقل، ضبط خسوف القمر وترقّبه بدقة. وتعتبر الأرصاد البابلية من أقدم الأرصاد العلمية التي دوّنتها الشعوب، واستفادت منها اوروبا في ما بعد.
واتّبع المصريون القدماء في بادئ الأمر ما فعله أهل بابل باستخدامهم القمر لتقسيم السنة إلى أقسام، غير أن المصريين خطوا خطوة ثانية إلى الأمام عندما قسّموا السنة إلى ثلاثة فصول وهي: فصل الفيضان (من منتصف تموز حتى منتصف تشرين الثاني)، وفصل الزرع والإنبات والانبثاق (من منتصف تشرين الثاني حتى منتصف آذار)، ثم فصل الحصاد والجفاف (من منتصف آذار حتى منتصف تموز). وكانت مدّة كل فصل أربعة أشهر. وقد جعلوا كل شهر من هذه الأشهر مؤلفًا من ثلاثين يومًا، وأضافوا خمسة أيام في نهاية السنة،
اعتبروها فترة عطلة وأعياد وذلك لكي يتطابق حساب السنة مع فيضان النيل ومع مواقع الشمس. وتتبّع الكهنة المصريون مواقع الكواكب وسجّلوا ملاحظاتهم قرونًا متتالية، وتمكنوا من إنشاء التقويم السنوي في عصور ما قبل التاريخ، وتحديدًا في المرحلة الأخيرة من هذه العصور. هذا الإنجاز العلمي الرائع أصبح في ما بعد أفضل إرث حضاري، وأعظم ما أورثته مصر القديمة للعالم المتمدّن. وكان الكهنة يعتبرون أن دراساتهم الفلكية التي أجروها يجب أن تظل من العلوم السرية. وقد لاحظ المصريون ظهور بعض الأجرام في سمائهم في الفترة التي ترتفع فيها مياه النيل وتفيض على جوانبه. وكان لظهور النجم المعروف بـ«نجم الشعرى اليمانية» شأن خاص عندهم، إذ ربطوا بين ظاهرة قرب فيضان النيل في صيف كل عام، وظهور هذا النجم في الأفق الشرقي قبل طلوع الشمس في يوم معيّن من السنة، فكان بزوغ النجم يدل عندهم على مجيء الفيضان.
وبتكرار ملاحظاتهم تمكّنوا من حساب الفترة التي يستغرقها ظهوره على هذا النحو فوجدوا أنها 365 يومًا. وهكذا اخترع المصريون القدماء التقويم السنوي على أساس الدورة الكاملة للشمس. ونشأ في مصر أفضل تقويم قديم، يرتكز على شيء من العلم ويستجيب لحاجات ملّحة، خصوصًا في مجال الزراعة.
سنة 2000 ق.م. تقريبًا، كانت مدة السنة لدى المصريين القدماء 365 يومًا بدلاً من 365 يومًا وربع اليوم (الزمن الفعلي للسنة الشمسية). وبذلك كان التقويم المصري القديم يختلف عن التقدير الحقيقي بربع يوم (ست ساعات) ويصبح هذا الفارق يومًا كاملًا كل أربع سنوات وشهرًا كل 120 سنة، إلى أن يتفق ظهور نجم الشعرى اليمانية مع بداية السنة، وذلك يحدث كل 1460 سنة. وقد أدخل يوليوس قيصر التقويم السنوي المصري إلى روما وأمر بتصحيح هذا الخطأ، فأصلحه فلكيو الإسكندرية اليونانيون في العام 46 ق.م. ثم عدّله البابا غريغوريوس الثالث عشر وحَسّنه سنة 1582م، وما زال العالم الغربي يعتمد هذا التقويم في يومنا هذا.
المساهمة الفلكية الثانية التي قدّمها المصريون القدماء، كانت تقسيم النهار والليل إلى إثني عشر قسمًا على منوال الإثني عشر شهرًا. فقد قسّموا اليوم إلى: ليل ومدته إثنتا عشرة ساعة، ونهار ومدته إثنتا عشرة ساعة، وهو التقسيم الذي مازال معتمدًا حتى الآن. كذلك، ابتكروا مجموعة من الآلات المختلفة لتحديد الساعات الزمنية.
أدت مراقبة شعوب الشرق الادنى القديمة للنجوم والكواكب وتتبع مواقعها إلى نشأة التنجيم (معرفة الغيب). وكان المنجّمون يتكهنون بما سيجري في مستقبل الانسان وما كتب له، ويدّعون بأنهم يعرفون ما هو مقدّر له بواسطة رسم خريطة أبراج أو تفحّص أحشاء الحيوانات والطيور، أو بمراقبة إمارات وإشارات أخرى. وفي لغتنا اليوم بعض المصطلحات التي تذكرنا بعهد التنجيم والعصور القديمة ومنها «سيّئ الطالع (النجم)» و«حسن الطالع»، و«الأيام السعيدة» و«الأيام المنحوسة»، ولفظة «التأثير» المشتقة من الأثير وكان يظن أنه سائل غازي لا يُرى، ينبثق عن النجوم «ويؤثر» في أقدار الناس وأعمالهم. وكذلك لفظة Lunatic، ومعناها مجنون أو مهووس، وهي مشتقة من لفظة القمر Luna، لأنهم كانوا يعزون أعراض الجنون وما يشبهها إلى تأثير القمر.
الرياضيّات والهندسة
كان للحضارة المصرية القديمة الفضل الأكبر على جميع الحضارات التي أنشأتها شعوب شرقي البحر الأبيض المتوسط. وقد وضع علماء مصر القديمة، ومعظمهم من الكهنة، أسس العلوم عند المصريين الذين بلغوا مراتب متقدّمة في الهندسة والرياضيات كما يتضح من بناء الأهرامات التي تطلّب تصميمها وتشييدها معرفة واسعة في هذين العلمين.
إن الأهرامات التي يبلغ عددها إثنين وعشرين هرمًا تمثّل أقدم أنصبة مبنيّة بالحجر، والهياكل العديدة، والمسلّات والبوّابات الفخمة، والأعمدة العالية التي تبدو بشكل حزم من قصب البردى، والقبور المحفورة في الصخر، والتماثيل المنحوتة البديعة الصنع، والتصاوير الرائعة الألوان، تعتبر إرثًا حضاريًا خالدًا خلّفته مصر القديمة للعالم. وهذا الإرث يؤكد بلوغ المصريين القدماء مرتبة متقدمة في الهندسة والرياضيات.
بدأ المصريون القدماء بتسجيل ارتفاع منسوب مياه النيل وانخفاضها وحسابهما حسابًا دقيقًا، وكان قياس الأراضي، التي محا الفيضان معالم حدودها، منشأ فن الهندسة.
في المقابل، كانت الشعوب القديمة وخصوصًا السومريون والمصريون القدماء، تعتمد العدّ على أصابع اليد، وأصبح عدد أصابع اليدين، الأساس الرياضي للنظام العشري، كما أصبح قاعدة للتدوين الحسابي عند المصريين. وأصبح العدد ستون، وهو مركب العشرة، والعدد، إثنا عشر، وهو أحد الأرقام التي ينقسم عليها العدد ستون، أساسين لنظامين حسابيين: الأول النظام الستيني، والثاني النظام الإثنا عشري، وكانا شائعي الاستعمال في بلاد بابل على نطاق واسع. وما زال النظام الستيني مستعملاً في تقسيم الساعة إلى ستين دقيقة، والدقيقة إلى ستين ثانية…
وعرف المصريون القدماء الجمع والطرح والقسمة، إلاّ أنهم استعملوها بطرق تختلف بعض الشيء عن أساليبنا الحالية. وعرفوا أيضًا الأعداد حتى العشرة، ثم مضاعفتها حتى المليون. وكانوا يرسمون علامة «المليون» على شكل هيئة إنسان يرفع يديه دلالة على الدهشة من الكثرة. وعرفوا أيضًا الكسور وضربها وقسمتها، وتحديد مساحة المربّع والمستطيل والمثلّث، وكانت لديهم وحدات للقياس والوزن والكيل.
الطب
نشأ الطب لدى المجتمعات القديمة في منطقة الشرق الأدنى على معتقدات شعبية بدائية ثم تطور مع الوقت.
وكان التكهّن بالغيب ومعرفة المستقبل عند البابليين يعتمد على دراسة أحشاء الحيوانات (لا سيما الكبد)، مما وفّر لهم بعض المعلومات البدائية عن تركيب الجسم البشري. هذه المعلومات الأولية مهّدت السبيل لظهور الجراحة في الطب. وكانت شريعة حمورابي تعاقب بالموت كل جرّاح دجّال يدّعي أنه طبيب قانوني، كذلك تقطع أصابع الطبيب الجرّاح إذا هو فتح خرّاجًا في عين مريض وسبب له العمى.
اهتم المصريون بالجراحة وتفوقوا فيها على زملائهم البابليين. فعادة تحنيط الموتى بشق جسم الانسان وإخراج الأحشاء منه، ساعدتهم في معرفة أعضاء الجسم الداخلية، كالقلب والمعدة والإمعاء والرئة والكبد وغيرها. وقد حنّطوا موتاهم بمواد ما زالت إلى اليوم موضع بحث وإعجاب. وتعلّموا من ممارسة التحنيط أيضًا خاصّية الملح والصمغ في حفظ جسم الميت.
وقد بيّنت المكتشفات الأثرية أن الأطباء في مصر القديمة كانوا يجرون عمليات جراحية دقيقة مثل «ثقب الجمجمة» إضافة إلى بعض التقدم في جراحة الأسنان.
وتضمنت إحدى البرديّات معلومات عن توصّل المصريين إلى معرفة الدورة الدموية وعلاقة النبض بالقلب، واتصال القلب بأوعية تتوزع في جميع أجزاء الجسم. كما تضمنت البرديّات نصوصًا طبية تعالج بعض النواحي الجراحية في الطب كالخرّاجات (أكياس) تحت الجلد، والبثور، والدمامل، والجروح، والكسور، وبعض الحالات المرضيّة عند النساء.
وسنّ المصريون نظامًا أدبيًا في المعالجة يقضي بإعلان الطبيب بصراحة للمريض مدى مقدرته في معالجة المرض بعد تشخيصه، إذ كان عليه أن يصرّح بإحدى العبارات الآتية: «هذا المرض لا أستطيع معالجته»، أو «هذا المرض من المحتمل معالجته»، أو «هذا المرض أستطيع معالجته». وكان من المصريين القدماء إختصاصيّون في التوليد وفي أمراض النساء وأطباء للعيون وآخرون لمعالجة اضطرابات المعدة وغيرهم.
وترك لنا المصريون القدماء مؤلّفًا مهمًا في الجراحة وضعوه على أساس علمي صحيح، وهو يدل إلى أن الجرّاحين المصريين شخّصوا كثيرًا من الحالات تشخيصًا صحيحًا، وعرفوا طريقة علاجها. وكانوا يحضّرون معظم العقاقير الطبية من النباتات، حيث كانت معرفة النباتات معرفة جيدة، من الأمور الأساسية لكل طبيب مصري، كما أكثروا من استعمال الفواكه والأعشاب. وقد انتقل قسم من المعارف الطبية المصرية إلى اليونان ومنها إلى الرومان ومن ثم إلى شعوب أخرى.
الآداب
كان الكهنة حماة العلم والمعرفة في بلاد ما بين النهرين ومصر، وقد لقّنوا مبادئ العلوم والأدب لأبناء الأسر الغنية في دور تعليم تابعة للهياكل. وكان الكهنة في مصر ذوي مكانة وسلطان، لا يدفعون الضرائب المفروضة على الشعب، ولا يؤدّون أعمال السخرة والخدمة العسكرية.
وتولّى رئيس الإسطبل الملكي العظيم المنصب المعروف اليوم بإسم وزير التربية، وكان عمل المدّرس في تلك الأيام يقضي بتخريج الكتبة للقيام بأعمال الدولة وللمحافظة على النظام والقانون. ومن مهمّات الكتبة إحصاء السّكان وتسجيل موارد الدولة ومصاريفها والإشراف على مقاييس النيل لمعرفة ما سيكون عليه موسم الحصاد، وكذلك الإشراف على شؤون الصناعة والتجارة.
وكان الورق المستعمل للكتابة من أهم السلع في التجارة المصرية، وما كتب على هذا الورق من مخطوطات منذ خمسة آلاف سنة، ما زال حتى الآن متماسكًا سهل القراءة. وصنع المصريون حبرًا أسود لا يتلاشى، أما القلم فكان قطعة بسيطة من الخشب أو القصب يعالج طرفها ليكون كقلم الرسّام.
يعتبر المصريون أول من استنبط الكتابة بحروف هجائية، واشتملت كتابتهم في بادئ الأمر على ستمائة علامة كثير منها يمثل مقاطع كاملة. ثم طوّروا كتاباتهم فأصبحت لديهم حروف هجائية حقيقية، وذلك قبل سنة 3000 ق.م.، وبلغ عدد هذه الحروف أربعة وعشرين حرفًا وسميت بالحروف الهيروغليفية، أي الحروف المقدّسة، وهي أقدم الحروف الهجائية التي عرفها البشر. وقد طوّر الفينيقيون، بعد المصريين، أبجدية خاصة بهم (22 حرفًا)، وما لبثت أن انتشرت في أرجاء العالم.
بلغ النشاط الإبداعي المصري في حقلي الأدب والفنون الجميلة مستوًى رفيعًا من حيث الكمية والجودة. وطوّر المصريون الأدب الحكمي والفن القصصي، وهم أول شعب حاول أن يضع القصة الشعبية الشائعة على ألسنة الناس، في قالب أدبي يكسبها الاستمرار والخلود.
تعتبر الحضارة المصرية واحدة من أعظم الحضارات في التاريخ، ويرجع ذلك إلى الرفاهية التي كانت تتمتع بها وإلى الخيرات التي كانت تفيض بها أرضها الخصبة. وقد أدت مصر ذات المساحة الصغيرة، دورًا ذا شأن في تاريخ الحضارة لم تؤدِّه أمم ذات مساحات شاسعة.