تحول الحوار بين الدكتورة مايا مرسى رئيسة المجلس القومى للمرأة والدكتورة شيرين غالب نقيبة أطباء القاهرة وأستاذة الطب الشرعى والسموم بكلية الطب جامعة القاهرة إلى معركة كلامية، بعد أن تدخل أنصار الحداثة والعلمانية والحركات النسوية ” الفيمينست”، ونقلوا القضية من دائرة الحوار إلى دائرة الاستقطاب الحاد، والهجوم غير المبررعلى الدكتورة شيرين .
كان من الممكن أن يظل الحوار هادئا عقلانيا بين الدكتورة مايا والدكتورة شيرين، حتى يأتى بنتائج إيجابية لصالح الطبيبات، ولصالح المرأة المصرية العاملة عموما، لما اتسم به من وضوح الرؤية ونبل الغاية والتقارب فى تشخيص المشكلة، ولكن تدخل الأطراف المتحفزة أفسد القضية كالعادة، وانتهت المعركة إلى ساحة للتلاسن وتبادل الاتهامات، دون أن تقدم شيئا مفيدا للبلاد والعباد .
بدأت القصة بعد انتشار مقطع فيديو من كلمة ألقتها الدكتورة شيرين غالب فى حفل تخرج طالبات كلية طب الأزهر بأسيوط منذ عام، نصحت فيه الخريجات بضرورة الاهتمام ببيوتهن وأولادهن، قائلة لهن : ” بيتك ثم بيتك، أولادك ثم مهنتك، لا تسمعى لمن يقول لك مهنتك قبل أولادك، هناك مليون طبيب غيرك سيقومون بعلاج المرضى، لكن لو تركت أولادك من سيرعاهم، ليس لهم غير أم واحدة هو أنت ” .
هذه ـ كما ترى ـ وصية أم تريد لبناتها النجاح فى الحياة بشقيها، الأسرى والمهنى، والأسرى أولا، وهى طبيبة ناجحة ونقيبة للأطباء، أى أنها إلى جانب عملها وأسرتها تمارس نشاطا اجتماعيا خدميا عاما، ووصيتها بسيطة وتلقائية، مناسبة لحفل تخرج الطبيبات الشابات المقبلات على العمل والزواج، وقد مرت شهور عديدة قاربت على العام لم يلتفت إلى هذه الوصية أحد، إلى أن وقعت تحت أيدى المتربصين والمتربصات، فانتهزوها فرصة لإشعال أزمة، خصوصا أن القضية تتوافر فيها عناصر الإثارة، فالدكتورة المتحدثة محجبة، ونقابة الأطباء فى موضع اتهام دائما، والأزهر ومناهجه فى مرمى النيران، والخريجات من طب أسيوط عمق الصعيد، والموضوع يتعلق بصراع المرأة بين البيت والعمل .
وجاء تعليق الدكتورة مايا مرسى هادئا رغم اختلافه مع وصية الدكتورة شيرين، حيث قالت عبر الحساب الرسمى للمجلس القومى للمرأة على فيسبوك : لقد خانك التعبير وخانك التوقيت، كنت أتمنى أن تقولى أنك واجهت صعوبات لكى تصلى إلى النجاح، وأنك ستجتهدين لتحققى للخريجات خدمات ورعاية أسرية فى أماكن عملهن، وأن ماواجهته من صعوبات وتحديات للموازنة بين عملك وأسرتك ستعملين على تذليله، وأن اختيار مهنة الطب لايعنى أن الطبيبة ستهمل أسرتها .
والكلام بهذا الشكل مقبول، ويمكن البناء عليه، وقد يفتح المجال للوصول إلى نوع من التعاون بين النقابة والمجلس القومى للمرأة بما يحقق مصلحة الطبيبات، لكن الطرف الثالث اقتحم الحوار فأشعله وأفسده، وحوله إلى سخرية وتهكم واتهامات للدكتورة شيرين، حتى طالبها بعضهم بأن تترك عملها وتتفرغ للبيت، وتساءل آخرون : لماذا تطالب المرأة دائما بترك عملها، لماذا لا يطلب ذلك من الأطباء الرجال ؟!
ومع تصاعد الهجوم اضطرت د. شيرين إلى الرد، فأكدت أن العمل مهم للمرأة، لكن أطفالها أهم، وأنها لم تطلب من الخريجات أن يلزمن المنازل، وإنما طلبت من كل فتاة ترتيب أولوياتها حسب ظروفها، وأن تجعل رعاية أولادها فى المقدمة، مشيرة إلى أنها امرأة ناجحة، وأنها المرأة الوحيدة فى الوطن العربى التى منحتها الكلية الإنجليزية زمالة الطب الشرعى، وأول نقيبة أطباء امرأة فى القاهرة، وأنها تسافر خارج مصر باستمرار لإلقاء محاضرات والحصول على تكريمات فى جميع أنحاء العالم، لكنها تضع رعاية أسرتها فى المقام الأول .
ووسط هذا الاستقطاب لم يسأل أحد السؤال الأهم : ماذا قدم المجلس القومى للمرأة من أجل مساعدة المرأة العاملة المطحونة فعلا، خاصة الطبيبات اللاتى يعشن حياة صعبة بسبب عدم القدرة على التوفيق بين المهنة ورعاية أطفالهن ؟ وماذا فعلت نقابة الأطباء لهن أيضا ؟!
إن المرأة العاملة التى يغنون لها تعانى فى بلادنا أشد المعاناة فى كل مراحل حياتها العملية، والقوانين التى تحميها من التمييز لايتم تفعيلها فى الواقع، وليس لها قوة تنفيذ، ويكفى أن القطاع الخاص اليوم، الذى هو مجال العمل الوحيد المفتوح أمام الخريجين، لايرحب بالفتاة المتزوجة، ولايوفر لها أية ضمانات، ويتنكر لحقوقها القانونية المشروعة، خاصة عندما تدخل فى مرحلة الحمل والولادة والرضاعة ورعاية الأطفال، ويزداد الأمر صعوبة عندما تكون المرأة العاملة طبيبة أو ماشابه ذلك من الوظائف التى تتطلب الارتباط الدائم بجهة العمل .
لقد أفسد الاستقطاب حياتنا، وشغلنا عن التفكير الجاد فى مشاكلنا وقضايانا الحقيقية، وأخذنا إلى قضايا عجيبة لاتشغل غيرنا، فمن يصدق أن يتعرض الإمام الأكبر لهجوم سخيف لمجرد أنه يقرأ كتابا معينا، أو حتى يضعه إلى جواره ؟! ومن يصدق أن أناسا عاقلين يتجادلون ويتعاركون حول أناس عاشوا وماتوا من ألف عام، وحول كتب كتبت من ألف عام ؟! ومن يصدق أن على ظهر هذا الكوكب أناسا تركوا مهامهم وتفرغوا للتفتيش فى التراث للتشكيك فى السنة النبوية وفى الإسراء والمعراج، ولإثبات أن الحجاب ليس فرضا، ولاعذاب فى القبر، وما إلى ذلك، لكنهم غافلون عن قضايا وطنهم الحقيقية ومشاكله، فما زال الناس فى بلادهم يأكلون مما لا يزرعون، ويلبسون مما لا يصنعون، وتحيط بهم المخاطر من كل جانب ؟!