هل يمكن أن يتعايش الإسلام والحداثة؟ هل تقبل المجتمعات الإسلامية الجمع بين بنائها الفكرى والقيم الحضارية الحديثة؟ هل يتسع الفقه الإسلامى المعاصر لاستيعاب منجز الحضارة الغربية،على المستويين العقلى والمادى؟
هذه الأسئلة وأمثالها هى محور الحوارات والصراعات الفكرية فى بلادنا منذ زمن طويل، هناك من درس وتدبر فى العمق والجوهر، وخرج بنتيجة مفادها عدم وجود عوائق تمنع التعايش بين الإسلام والحداثة، إذا فهمنا الإسلام والحداثة على الوجه الصحيح، وهناك من وقف عند القشور، وتأثر بالدعايات المغرضة، فأمعن فى إثبات التناقض التام بين الطرفين، فلا إسلام مع الحدائة، ولا حداثة مع الإسلام.
ويقف فى كلا المعسكرين علماء وفقهاء ومفكرون وأكاديميون وإعلاميون، كل ينتصر لرأيه، ويعمل على تعميم أحكامه، فأما الذين يرون إمكانية، بل ضرورة، التعايش بين الإسلام والحداثة فى كل أطوارها فهم أولئك الذين فهموا مقاصد الإسلام وغاياته وثوابته، وفهموا أيضا مقاصد الحداثة وجوهرها وغاياتها الحقيقية، وهؤلاء هم الذين يمارسون التنوير الإسلامى على وجهه الصحيح فى كل زمان ومكان، وأما الذين يرفضون الحداثة باسم الدين، أو يرفضون الدين باسم الحداثة، فهم ثلة المتجمدين فكريا، قصار النظر عما فى هذا وذاك من إيجابيات وسعة.
ويحضرنى الشيخ محمد الغزالى رحمة الله عليه فى رده على من يرى أن الديمقراطية والانتخابات وتداول السلطة بدعة أوروبية، وأن شعارات الحرية والإخاء والمساواة من إنتاج الغرب الكافر وليست من الإسلام، ويسخر من مبدأ ) الأمة مصدر السلطات (، حيث يقول الشيخ فى ذلك : ” لا تظلموا الإسلام، إذا كان شعار الحرية والإخاء والمساواة من صنع عباد الشيطان فماذا صنع عباد الرحمن ؟ وإلى أين تتجه الطبقات التى تشعر بالعبودية والنبذ والظلم ؟ وقضية ) الأمة مصدر السلطات( لا تعنى أكثر من وضع حد للحق الإلهى فى الحكم الذى زعمه ملوك أوروبا لأنفسهم، أى أنه لاحق لأبى بكر فى الخلافة لو لم تختره الأمة اختيارا عبر عن رغبتها الحرة، إننى أرفض، بل أزدرى، صياحا أبله ضد مبادئ هى من صميم الفطرة، ومن غايات الإسلام الاجتماعية، لا لشيء إلا لأنها غير ما نألف فى عاداتنا وتاريخنا، أعنى عادات أمتنا إبان هزائمها الثقافية والسياسبة، وما حواه تاريخها الأخير من تخلف وضياع.”
وعلى هذا النحو يرد التنوير الإسلامى مبادئ التطور الحضارى إلى أصولها بوعى شديد، يفصل بين الجوهر والمظهر، فالديمقراطية مثلا أصلها فى الإسلام جاء من مبدأ الشورى، وهو مبدأ دينى أمر الله به، ومن الشورى خرجت البيعة، وكان أول أشكالها فى سقيفة بنى ساعدة تطبيقا عقليا، ارتكز على فهم المقصد والغاية، ثم ظهرت تطبيقات أخرى انحرفت بالبيعة عن معناها وغايتها، وركزت على الشكل دون المضمون، فحولت البيعة إلى جبر وخضوع، بينما اجتهدت أمم أخرى فى تطوير تطبيقات الشورى حتى وصلت إلى الصيغة الحالية للانتخابات الحرة النزيهة، وهى أقرب الصيغ التى ابتدعها العقل الإنسانى لتحقيق المبدأ الربانى، ومن ثم فلا تناقض بين ما أمر الله به وما ابتدعه العقل لتحقيق مراد الله.
وفكرة الجمع بين العقل والنقل، بين الدين والدنيا، فكرة إسلامية راسخة، عرفها الأقدمون والمحدثون، وكانت دائما الجسر الذى عبرت به الأمة مراحل التطور الحضارى متمسكة بثوابت دينها، ومواكبة لمنجزات عصرها.
وعندما علت صيحة ” لا حكم إلا لله ” لجعل الحكم قضية دينية ومشيئة إلهية، وليس إرادة إنسانية، جاء الرد من العقل الإسلامى ” التنويرى ” بأن نصوص الكتاب والسنة منها ما هو قطعى الثبوت قطعى الدلالة، لا اجتهاد معه، ومنها ماهو قطعى الثبوت لكنه حمال أوجه، وهنا اقتضت مشيئة الله عز وجل أن يفسح للعقل مساحة يعمل فيها، بما يحقق مراد النص مع اختلاف المكان وتطور الزمان، وذلك من خلال الاستدلال والاستنتاج والقياس والاستحسان، وهى أدوات أنتجها العقل للنظر فى شئون الدنيا، وعلى ذلك استطاع المسلمون بالإرشاد الإلهى أن يشرعوا لأنفسهم على امتداد الزمان والمكان.
وقد فطن علماؤنا الأولون إلى أن النص الدينى المقدس لن يطبق نفسه بنفسه، وإنما لابد له من عقل يستوعب ويقرر، ويد تنفذ، ومن ثم اعتبرت مقولة الخوارج ” لاحكم إلا لله ” من قبيل اللعب بالألفاظ لتبرير الاستبداد السياسى، وتقويض بنيان الأمة بتلبيس المعانى وتحريف الكلم عن مواضعه.
وما يقال فى قضية الحكم والديمقراطية يقال فى قضية إنصاف المرأة، فقد أعطاها الإسلام حقوقا ثابتة، وأنقذها من ويلات الجاهلية، وبرأها من كل اتهام واحتقار، وأقر لها بالمساواة مع الرجل فى الخلق والكرامة الإنسانية، وأنزلها منزلة سامية فى المجتمع الذى تعيش فيه، وعندما تتطور المجتمعات و تتوسع فى إنصاف المرأة، وتعطيها حقوقا متساوية مع الرجل فى التربية والتعليم والرعاية والصحة والسكن والقيادة والسياسة بما لايتعارض مع النصوص الدينية القطعية فلا حرج فى ذلك مطلقا، إنما الحرج فى الخروج بهذه الحقوق من دائرة المشروعية الإسلامية إلى دائرة التقليد الأعمى للمرأة الغربية، فليس معنى أن يقبل العقل الإسلامى منجزات الحقوق أن يجبر على تجاوز ثوابت الدين فيما يتعلق بميراث المرأة وملبسها، أو يتسامح فى قضية الشذوذ والمساكنة وما إلى ذلك.
التنوير الإسلامى مدرسة وسطية قديمة حديثة، لاتنكر العقل ولا تتنكر للدين، وليس من قبيل المبالغة القول أن هذه المدرسة هى التى حافظت على مسيرة أمتنا إلى اليوم وسط أنواء عاصفة، تجرها تارة ذات اليمين لتتقوقع على ذاتها، وتحكم على نفسها بالجمود حتى تفنى وتنقرض معزولة عن الحياة، وعن حركة التاريخ، وتدفعها تارة ذات الشمال لقطع جذورها وحرق تراثها، والتخلى عن روحها وخصوصيتها، حتى تذوب فى الآخر بداعى التحضر والتقدم، فتصبح ذيلا تابعا لا أكثر.
وأكمل الأسبوع القادم إن شاء الله .