الوصايا هي خلاصات التجارب الإنسانية يقدمها الإنسان لأحبائة حرصا منه عليهم بعد أن خبر الحياة وأدرك كنهها وانتهى فيها إلى يقين في مختلف شئونها المادية والروحية لذا فإنها تأتي والقواعد العلمية التي لا تتخلف .
.فمن وصايا الامام الاكبر بن عربي :
وَصَّى الإلهُ وأَوصَتْ رُسْلُهُ فلِذَا * كانَ التّأسِّي بِهِمْ مِنْ أَفضَلِ العملِ.
لولاَ الوصيّةُ كانَ الخَلْقُ فى عَمَهٍ * وبالوصيّةِ دامَ الْمُلْكُ فى الدُّوَلِ
فاعملْ عليْهَا ولاَ تُهمِلْ طريقتَهَا * إنَّ الوصيّةَ حُكْمُ اللهِ فى الأزلِ
ذَكَّرْتُ قوماً بِمَا أَوصَى الإلهُ بِهِ * وليسَ إحداثُ أمرٍ فى الوصيّةِ لِى.
فلَمْ يَكُنْ غَيْرَ مَا قالُوهُ أوْ شَرَعُوا * مِنَ السّلوكِ بِهِمْ فِى أَقْوَمِ السُّبُلِ
فهَدْىُ أَحمَدَ عينُ الدِّينِ أجمعِهِ * ومِلَّةُ المصطفَى مِنْ أَنْوَرِ الْمِلَلِ
قال تعالى فى الوصيّة العامة { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِى أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيه } [ الشورى : 13 ] ؛ فأمر الحقّ بإقامة الدين ، وهو شرع الوقت فى كُلّ زمانٍ وملة ، وأنْ نَجتمع عليه ولا نَتفرّق فيه ؛ فإنّ يد الله مع الجماعة ، وإنّما يأكل الذئبُ القاصيةَ مِن الغنم .
مِن وصايا العارفين :
إذَا عصيتَ اللهَ بموضعٍ فلا تَبرح ذلك الموضعَ حتى تَعمل فيه طاعةً وتُقِيم فيه عبادةً ؛ فكَمَا يَشهد عليك إذَا استُشهِد يَشهَد لك ، وكذلك ثوبُك إنْ عصيتَ اللهَ فيه فاعبد اللهَ فيه كذلك ، وادعُ اللهَ أنْ يَتوب عليك امتثالاً لأمره سبحانه { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُم } ؛ فأمرك أنْ تَدعوه ووعدك بالاستجابة لِلدعاء ، ثم قال { إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى } يَعنى هنا بالعبادة الدعاءَ ؛ أىْ يَستكبرون عن الذلّةِ والمسكنة { سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين } أىْ أذلاّء ، فإنْ فعلوا ما أُمِروا به جازاهم الله بدخول الجنّةِ أعزّاء ..
يقول رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم {أَتْبِع السيئةَ الحسنةَ تَمحُها} .
وقال تعالى { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَات } .
ومِن وصاياهم : حَسِّن الظَّنَّ بربّك على كُلّ حال ، ولا تسئ الظَّنَّ ؛ فإنّك لا تدرى هل أنت على آخِر أنفاسِك فى كُلّ نَفَس يَخرج منك ؛ فتموت فتَلقَى اللهَ على حُسْن ظنٍّ به لا على سوءِ ظنّ ، وقد ثَبَت عن رسول الله – صلى الله عليه وسلّم – فيما رواه عن ربِّه أنّه – عزّ وجلّ – يقول { أنَا عند ظنِّ عبدى بى ؛ فلْيَظُنّ بى خيراّ } ؛ فاجعل ظنَّك بالله عِلماً بأنّه يعفو ويغفر ويتجاوز ، ولْيَكن داعيك إلى هذا الظَّنّ قولُه تعالى { يَا عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّه } ؛ فنَهاك عن أنْ تَقنط ، وما نهاك عنه يجب عليك الإنتهاء عنه ، وقد أَخبَر الصادق الأمين { إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعا } وما خصّ ذنباً مِن ذنب ، وأَكَّدَها بقوله { جَمِيعا } ، ثمّ تَمَّم فقال { إِنَّهُ هُو } فجاء بالضمير الذى يَعود عليه { الْغَفُورُ الرَّحِيم } مِن كونِه سبقَت رحمتُه غضبَه ..
كذلك قال { الَّذِينَ أَسْرَفُوا } ولم يُعَيِّن إسرافاً مِن إسراف ، ثم أضاف العبادَ إليه لأنّهم عباده كَمَا قال عيسى عليه السلام { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُك } ، فأضافهم إليه ؛ وكفى شرفاً شرفُ الإضافة إلى الله تعالى .
ومِن وصاياهم : ذِكْر الله وثمراته ..
قيل : عليكم بذكر الله فى السِّرّ والعلن ، وفى أنفسكم وفى الملأ ؛ فإنّ الله سبحانه يقول { فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُم } فجعل جوابَ الذكر مِن العبد الذكرَ مِن الله .
وأيّ ضرّاء على العبد أَضَرُّ مِن الذنب ؟!
وكان – صلى الله عليه وسلم – يقول فى حال الضرّاء { الحمد لله على كُلّ حال } ؛ فإنّك إذَا أَشعرتَ قلبَك ذكرَ الله دائماً فى كُلّ حال لا بدّ أنْ يستنير قلبُك بنور الذكر ؛ فيرزقك ذلك النورُ الكشفَ ؛ فإنّه بالنور يقع الكشف لِلأشياء ، وإذا جاء الكشف جاء الحياء يَصحبه ؛ دليلك على ذلك استحياؤك مِن جارِك وممن ترى له حقّاً وقدراً لديك ، ولا شكَّ أنّ الايمان يعطيك تعظيمَ الحقّ عندك ، والوصيّة هى لِكُلّ مسلِمٍ مؤمِنٍ بالله وبما جاء مِن عند الله ..
واللّه يقول فى الحديث القدسى { وأنَا معه } يَعنى مع العبد { حين يَذكرنى : إنْ ذكرنى فى نفسه ذكرتُه فى نفسى [ صورة مرآة ] ، وإنْ ذكرنى فى ملأ ذكرته فى ملأ خير منهم } .
وقال تعالى { وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَات } .
وأكبر الذكر ذكر اللَّه على كُلّ حال [ فى السرّاء والضرّاء ] .
ومِن وصاياهم : الإجتهاد فى القربات والطاعات .. ثابِر على إتيان جميع القُرَب جهدَ الاستطاعة فى كُلّ زمان وحال ؛ فإنك إنْ كنتَ مؤمناً فلن تَخلص لك معصية أبداً مِن غير أنْ تخالطها طاعة ؛ فإنك مؤمِنٌ بأنّها معصية ، فإنْ أضفتَ إلى هذا التخليط استغفاراً أو توبةً فطاعةٌ على طاعة ؛ فيقوى جزء الطاعة التى خلط به العمل السيّئ ، والإيمان مِن أقوى القُرَب وأعظمها عند اللَّه ؛ فإنه الأساس الذى انبنى عليه جميع القُرَب ..
ومِن الايمان حكمُك على اللَّه بما حَكَم به على نفسه ؛ حيث قال { وإنْ تَقَرَّب منى شبراً تقربتُ منه ذراعاً ، وإنْ تَقَرَّب منى ذراعاً تقربتُ منه باعاً ، وإنْ أتانى يمشى أتيتُه هرولة} ، وسببُ هذا التضعيف مِن اللَّه والأقلّ مِن العبد والأضعف فإنّ العبد لا بدّ له أنْ يَتثبَّت مِن أجل النيّة بالقربة إلى اللَّه بالفعل وأنّه مأمور بأنْ يزن أفعالَه بميزان الشرع ؛ فلا بدّ مِن إقامة الميزان لأنّ به تصحّ المعاملة ، وقد وصف نفسَه بأنّه يَقرب منك إذَا قربتَ منه ؛ لأنّك على الصورة خُلِقْتَ[ خَلَق آدمَ على صورتِ ه ] ، وأنت خليفته على ذاتك فى أرضِ بدنِك ، ورعيتُك جوارحك وقُوَاك الظاهرة والباطنة ، وهو قوله سبحانه { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد } ؛ هذا القُرب المطلَق هو جزاءُ قربِ العبد مِن اللَّه ، وهذا لا يتأتّى إلاَّ بالإيمان بما جاء مِن عند اللَّه بعد الإيمان بالله وبالْمُبَلِّغ عن اللَّه : رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومِن وصاياهم : مجاهَدة النفس .. ألزِم نفسَك الحديثَ بعمل الخير وإنْ لم تفعل ، ومَهْمَا حدّثتَ نفسَك بِشَرٍّ فاعزم على ترك ذلك لله إلاَّ أنْ يَغلبك القَدَر السابق والقضاء اللاحق ؛ فإنّ اللَّه إذَا لم يقضِ عليك بإتيان ذلك الشَّرّ الذى حدّثتَ به نفسَك كتبه لك حسنةً ؛ وقد ثبت عن رسول اللَّه – صلى الله عليه وسلم – عن ربه – عزّ وجلّ – أنّه يقول { إذَا تحدَّثَ عبدى بأنْ يَعمل حسنةً فأنَا أكتبها له حسنةً ما لم يَعملها } وكلمة { ما } هنا ظرفيّة ؛ فإنّ اللَّه يكتبها له حسنةً واحدةً فى كُلّ زمان يصحبه الحديث بها فيه بَلَغت تلك الأزمنة مِن العدد ما بلغت ؛ فله بكُلّ زمان حديث حسنة ، ثم قال { فإذَا عملها فأنَا أكتبها له بعشر أمثالها } ، فإنْ كانت مِن الحسنات المتعدية التى لها بقاء فإنّ الأجر يَتجدد عليها ما بقيَت إلى يوم القيامة : كالصدقة الجارية مِثْل الأوقاف ، والعِلم الذى يبثّه فى الناس ، والسُّنّة الحسنة وأمثال ذلك ..
ثم تَمَّم نعمَه على عباده ؛ فقال تعالى { وإذَا تحدَّثَ بأنْ يَعمل سيئةً فأنَا أغفرها له ما لم يَعملها ، فإذَا عملها فأنَا أكتبها له بمِثلِها } ؛ فجَعَل العدلَ فى السيئة ، والفضلَ فى الحسنة ، وهو قوله { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَة } وهو الفضل بما زاد على المِثل .
ثم أخبر تعالى عن الملائكة أنّها تقول بحكم الأصل عليها الذى أنطقها فى حقّ أبينا آدم بقولها { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء } ، فما ذَكَرَت إلاَّ مساوينا ، وما تعرّضَت لِلحسن مِن ذلك ؛ فإنّ الملأ الأعلى تَغلب عليه الغيرة على جناب اللَّه أنْ يُهتضَم ، وعلمت مِن هذه النشأة العنصرية أنّها لا بدّ أنْ تخالف رَبَّهَا لِمَا هى عليه مِن حقيقتها ، ومِن هنا نَعلم فضلَ الإنسان إذَا ذَكَر خيراً فى أحد وسَكَت عن شَرِّه أين تَكون درجتُه مع القصد الجميل مِن الملائكة فيما ذكروه ، وكُلٌّ يَعْمَل على شاكِلَتِه .
وقد قال تعالى فى الحسنة والسيئة { مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } وأَزيَد { وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا } ، ويغفر بعد الجزاء لِقوم ، وقبل الجزاء لِقوم آخَرين ؛ فلا بدّ مِن المغفرة لِكُلّ مسرِفٍ على نفسِه وإنْ لم يتب .