إذا كان الملحن عمرو مصطفى قد فتح نافذة كبيرة على الجدل، حينما أقدم على استنساخ صوت “كوكب الشرق”، وأرغمها على أن تغني ما يريده منها بعد موتها بقرابة خمسة عقود، فإنني أرى أن بابًا أوسع على خوف حد الهلع، قد فتحناه على أنفسنا بأنفسنا، وفتحته علينا بلا هوادة تقنيات ما بات يُعرف ب “الذكاء الاصطناعي”.
ليت الأمر يقف عند “أفتكر لك إيه”، تلك الأغنية التي انتحل بها الذكاء الاصطناعي صوت أم كلثوم، وساعده على فعلته بالكلمات والألحان والجرأة غير المحسوبة أو المقبولة، ملحن استهواه “ركوب الترند”، ولم يستطع الإمساك بلجام الفضول الفني الاصطناعي، فالموضوع “كله على بعضه” مرعب، وصار بالفعل أكبر حتى من مجرد تخيل عواقبه، وإلى أين يمكنه أن يقودنا أو ينتهي بنا.
قطعًا مخاوفنا لها ألف مبرر يبررها، ولا يجوز النظر إليها باعتبارها وساوس يغذيها القلق المعتاد من الجديد الملفوف بالمجهول، وإلا فليُجبنا أحدهم لِمَ استقال جيفري هينتون الأب الروحي للذكاء الاصطناعي (AI)، محذرًا من المخاطر المتزايدة من التطورات الجارية في هذا المجال.
الرجل الذي تخطى بقدميه عتبة عامه الخامس والسبعين يبدو أنه قد وخز ضميره ما فعله بالبشرية، فأعلن مع استقالته من شركة “جوجل” في بيان نشرته صحيفة “نيويورك تايمز” أنه يأسف الآن لعمله في هذا الميدان، كاشفًا في تصريحات إعلامية لاحقة عن أن “بعض جوانب برامج تشات بوت مخيفة للغاية”.
أبحاث “هينتون” غير المسبوقة حول الشبكات العصبية والتعلم العميق هي التي مهدت الطريق لتقنيات الذكاء الاصطناعي الحالية مثل “تشات جي بي تي”.. وبعيدًا عن “الكلكعة العلمية”، فإن الشبكات العصبية هي أنظمة أقرب ما تكون إلى العقل البشري، من ناحية الطريقة التي يتعلم بها ويعالج بواسطتها المعلومات.. أي أنها تمكن أنظمة الذكاء الاصطناعي من التعلم من التجربة، بالضبط كما يفعل أي شخص، وهو ما يُسمى ب “التعلم العميق”.
كان الدكتور “هينتون” واضحًا كذلك إلى أبعد درجة حين أشار إلى “الجهات السيئة” التي غالبًا ستحاول استخدام هذا الذكاء الاصطناعي لأغراض “شريرة”، وهو ما ينبغي أن يستوقفنا بشدة، ونحسب له ألف حساب، ويحتاط له العالم، قبل فوات الأوان.
إيلون ماسك هو الآخر لم يُخفِ قلقه، وزادنا قلقًا فوق قلقنا.. الملياردير المعروف الذي كان من بين مَن دعموا واستثمروا في “أوبن إيه آي” خرج على العالم بتغريدة له على تويتر واصفًا “تشات جي بي تي” بأنه جيد ومخيف، مشددًا على أننا لسنا بعيدين عن “ذكاء اصطناعي قوي بشكل خطير”.
ماسك تابع تحذيره: “من الصعب تخيل المدى الذي قد تصل إليه هذه التقنية المذهلة.. استكشاف قدرات تلك الأداة المبتكرة الذكية في الوقت الحالي بالتأكيد أمر ممتع ومفيد، ولكن من المهم كذلك التفكير في الآثار السلبية المحتملة للذكاء الاصطناعي، لا سيما على حياة الأفراد”.
ما يخيف أكثر أنه وبحسب المختصين في هذا المجال، فإن وتيرة تطور الذكاء الاصطناعي فاجأت حتى الجهات التي تقوم بتطويره، إذ تسارع تطوره بشكل مرعب منذ أن أنشأ الدكتور هينتون الشبكة العصبية لتحليل الصور، قبل أحد عشر عامًا.
حتى رئيس “جوجل” سوندار بيتشاي قال في مقابلة أجريت معه مؤخراً إنه هو نفسه لم يفهم تمامًا كل ما يفعله روبوت الدردشة “بارد” الذي طورته شركته.
“تذكروا أننا الآن على متن قطار سريع، والخوف هو أن يقوم القطار يومًا ما ببناء مساراته الخاصة بنفسه”.. الكلام لبيتشاي.. وخوفه وخوفنا لا بد وأنه في محله.
وبرغم أنها إحدى المعضلات والهواجس الكبرى، لكن يخطئ مَن يتصور أن أسوأ المخاطر التي من شأنها أن تتهدد البشر جراء التوسع في تطبيقات الذكاء الاصطناعي هو فقدان الناس أرزاقهم، بضياع فرصهم في العمل، إذ كشف تقرير مبدئي لبنك الاستثمار “جولدن مان ساكس” عن أن الذكاء الاصطناعي بمقدوره أن يختطف منا قريبًا نحو 300 مليون وظيفة، بدوام كامل.
بحسب التقرير ذاته فإن تقنيات الذكاء الاصطناعي ستقوم بمهام ربع الوظائف في الولايات المتحدة وأوروبا، حيث يمكن استخدامه لإنجاز 46% من المهام الإدارية و44% من المهن القانونية.
“القوس مفتوح” على زيادة سريعة في النسب، ونوعية الوظائف المفقودة، كلما مرَّ الوقت، ودون استثناء واحد تقريبًا، وهو ما ذهب إليه أيضًا الباحث الأمريكي بِن جورتزل الذي توقع ألا يقل نصيب الذكاء الاصطناعي من الوظائف عن 80%، خلال سنوات معدودة.
بقي أن نعلم أن من بين أهم ما يشغل علماء مثل كلود شانون أحد رواد العصر الرقمي هو أن تشكل هذه الأنظمة الروبوتية في المستقبل القريب خطرًا خارج حدود السيطرة البشرية، وتؤدي إلى خلق مجتمع يكون للبشر فيه مكانة اجتماعية منخفضة !
أما الدكتور ديفيد هانسون، مصمم الروبوت الشهير “صوفيا”، فقد كشف عن رؤيته المستقبلية للروبوتات “النابضة بالحياة”، في ورقة بحثية جديدة.
يكاد يجزم “هانسون” أن البشر لا تفصلهم سوى بضعة عقود عن بدء الزواج من الروبوتات، ويعتقد بأن الروبوتات ذات الذكاء الاصطناعي العالي ستحصل على الحقوق المدنية ذاتها التي يتمتع بها البشر، بحلول عام 2045، ويشمل ذلك “الحق في الزواج، وامتلاك الأراضي، وحتى التصويت في الانتخابات العامة”!
صاحب “صوفيا” يؤكد كذلك أن الروبوتات “ستستيقظ يومًا ما وتصر على حقها في الوجود، والعيش حرة”.. أما أنا فأؤكد، بعد كل ما سبق، أننا نحن البشر مَن سيتم انتهاك حقهم في الوجود، والعيش أحرار، إذا لم تُوضع ضوابط سريعة لهذا العبث العلمي، و”الفناء الاصطناعي”.
mhamid.gom@gmail.com