الآن حصحص الحق، أزيلت الغشاوات عن العيون، وصار للكلام وجه واحد، ولم يعد مجال للتلاعب بالكلمات الفضفاضة، الآن رأينا بأعيننا كيف تكالب الغرب بخيله ورجله لإنقاذ إسرائيل، جاء رؤساء وحكام ووزراء ليعلنوا تضامنهم الكامل مع الإجرام الصهيونى، وأرسلوا أساطيلهم وأسلحتهم وجنودهم ليحاربوا كتفا إلى كتف مع الإسرائيليين، بينما يقف العرب والمسلمون مكتوفى الأيدى، لايقدرون على مساندة إخوانهم المستضعفين فى غزة، وهم يقصفون بالطائرات والصواريخ، وتدك بيوتهم على رءوس أطفالهم ونسائهم ليل نهار، ويحاصرون من كل جانب، ويمنع عنهم الطعام والماء والدواء، فى جريمة إبادة جماعية لم يعرف لها التاريخ مثالا.
كيف وصل الحال بأمتنا إلى هذا الوضع، ونحن الذين أمرنا فى القرآن والسنة بأن ننصر إخواننا فى الدين، لا نساعدهم فقط، وإنما نقف فى خندقهم حتى ننتصر لهم، وننتصر معهم ؟
أعرف أن إجابة السؤال صعبة مريرة، لكنها الآن ضرورية حتى نعرف موطن الداء، فنحسن التشخيص ثم نحسن وصف الدواء، إذا أردنا حقا أن نعالج ضعفنا ويأسنا، ونخرج من الكهف المظلم الذى نتخبط فيه لعشرات السنين.
لقد صعقتنا الصدمة، وأذهلتنا المقارنة، فأصدقاؤنا فى أوروبا وأمريكا الذين وثقنا بكلامهم المعسول عن السلام العادل، لم يأتوا بالسلام ولا بالعدل، وفى لحظة الجد تحولوا عنا، وكشفوا عن وجههم الحقيقى، جاءوا بأساطيلهم ليحموا دولة الاحتلال، وليسهموا فى محرقة وحشية لأصحاب الحق، الذين يدافعون عن أرضهم وشعبهم ومقدساتهم، وقبل ذلك عملوا على شيطنة المقاومة، ودمغوها بالإرهاب، وقيدوا أيادينا كى لا نمدها بشيء من المساعدة إلى إخواننا المحاصرين، وكمموا أفواهنا كى لا نساند إخواننا ولو بشق كلمة، ونحن الذين ملأنا الدنيا كلاما عن التعايش السلمى والحوار الحضارى والأخوة الإنسانية وقبول الآخر.
الآن وقد بدا العالم من حولنا أكثر وضوحا، وكشرت الضباع عن أنيابها، هل آن لنا أن نترك الوهم ونعيش الواقع ؟ هل آن لنا أن ننعتق من هذا الأسر، ونكسر القيود الذى أدمت معاصمنا ؟
إن ما يحدث فى غزة قضية كل عربي وكل مسلم، و جوهر الحرب الحالية، كما كان جوهر الحروب الصليبية قديما هو القدس والمقدسات، والمواجهة فى حقيقتها مواجهة حضارية وعقائدية، لا تخص شعبا دون الآخرين، ولا دولة دون باقى الدول، وقد نجح الغرب فى أن يحشد أمما، وعجزنا نحن عن أن نحشد أمة واحدة، ولو استمر الحال بنا على هذا التشرذم غير الواعي فسوف نؤكل فرادى، سوف تتعدد الأسباب وتتنوع مع الزمن، ولكن سيظل الهدف هو القضاء على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، من شرقها إلى غربها، بالأمس كان تدمير العراق وكانت مذابح البوسنة واجتياح أفغانستان، واليوم غزة، وغدا القدس، وبعد غد دمشق والقاهرة ومكة والمدينة، ثم صنعاء واسطنبول وإسلام اباد، وكل مكان يرفع فيه نداء التوحيد.
وإذا كان من الصعب أن نساعد إخواننا اليوم فلا أقل من أن نبدأ العمل جديا على الانعتاق من الهيمنة الغربية، الأوروبية الأمريكية، ونخطو خطوة جماعية نحو إحياء مفهوم الأمة الإسلامية، التى ” إذا اشتكى منها عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر”، وندرك أننا نعيش فى المرحلة التى تتداعى فيها الأمم علينا، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، مصداقا لحديث رسولنا الكريم، ولكى لا نظل غثاء كغثاء السيل فإن الواجب يملى علينا أن نسترد ذاتنا وهويتنا التى أبعدنا عنها، بل انقلبنا عليها، ونعود إلى جذورنا التى قطعنا الوشائج معها، ونحرر عقولنا من التبعية للغرب، ونكسر الطوق الذى قيدونا به بدقة وإحكام.
لقد نجحوا منذ أكثر من قرن فى غزونا ثقافيا، وأن يغيروا أفكارنا ويقلبوا مفاهيمنا ولغتنا، فجعلوا التحلل من الدين إصلاحا دينيا، والالتزام بالدين تشددا وسلفية، والحجاب تخلفا وتطرفا، والجهاد فى سبيل الله والوطن إرهابا، وتسللوا إلى القرآن والسنة لإفسادهما بتأويلات حداثية، وأغرقونا فى صراعات فكرية وسياسية وحروب بينية، حتى نستهلك قوانا بعيدا عنهم، وكان من نتيجة ذلك أن بات الحديث عن الأمة الإسلامية لونا من الأصولية الرجعية، وأي ذكر للخلافة الجامعة تعصبا ممقوتا، وبينما يحتشدون هم للحرب إلى جانب أوكرانيا وإسرائيل لاتستطيع أمتنا أن ترسل لقمة خبز أو شربة ماء أو زجاجة دواء إلى غزة إلا بإذنهم، فما بالك بقطعة سلاح.
وقد رأينا فى الجلسة التى عقدها مجلس الأمن الأسبوع الماضى حول غزة كيف اتحدت قوى الظلم والاستكبار العالمى( القوى العظمى) لدعم إسرائيل، وحمايتها علنا وبكل فجور من أية إدانة أو شجب، ورفض وقف إطلاق النار، بينما كان الصوت العربي خافتا، وكان الصوت الإسلامي مشتتا لا وزن له، رغم أنه الأكبر والأكثر تأثيرا، حيث يضم 57 دولة أعضاء فى منظمة التعاون الإسلامى، وهذا ما يؤكد حاجتنا اليوم إلى التوحد، وليس إلى المسكنات التى قوضت الوحدة الإسلامية، وأضعفت وشائجها.
آن الأوان ليعود العالم العربي والإسلامى قويا متماسكا، وأن تكون له كلمة موحدة ومسموعة فى النظام العالمى، ولن يحدث ذلك إلا إذا انعتق من التبعية للغرب، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، وشد بعضه أزر بعض، إيمانا بوحدة المصالح ووحدة المصير، وانفتح على القوى الأخرى التى تجتهد لكسر الهيمنة الغربية، والعمل معها من أجل تغيير النظام العالمى الأحادى الظالم، وتشكيل نظام متعدد الأقطاب، يصبح فيه عالمنا الإسلامي قطبا فاعلا ومؤثرا.
إن المخططات الخطيرة التى كشفت عنها حرب غزة يجب أن تضعنا أمام 3 حقائق تاريخية مهمة : الأولى أن الشرق شرق والغرب غرب، والثانية أن من يلتمس الخير عند الأوروبيين والأمريكان سيظل متخبطا فى وهمه، والثالثة أنه رغم الدمار والموت الذى يملأ غزة اليوم فإن صحوة الأمة سوف تعوض كل شيء، وتبدأ بنا حقبة جديدة إن شاء الله.