أن إسرائيل بالرغم من تفوقها العسكري والاقتصادي والسياسي والاستراتيجي بصورة عامة، وما تملكه من قوة ودعم أميركي مطلق، تشعر بالقلق بسبب تراجع الدور الإسرائيلي والأميركي في المنطقة والعالم بعد صعود إيران وتركيا، وبعد الهزائم في العراق وأفغانستان، والأزمة الاقتصاديّة العالميّة، والثورات والمتغيرات العربيّة، وبعد وقف المفاوضات، وبحث الفلسطينيين عن بدائل أخرى.
إن هذا القلق لا يؤدي إلى فزع، وإنما إلى استعدادات إسرائيلية لكل الخيارات، وعمل حثيث لاستيعاب المتغيرات والثورات والسعي إلى احتوائها، والسيطرة عليها، والاستعداد للتعامل مع الأخطار والتهديدات المتولدة عنها عن طريق الاحتفاظ بقوة الردع وزيادتها، ولو اقتضى الأمر إلى الحرب مثلما يظهر بالتهديدات الإسرائيليّة والتحريض الإسرائيلي لضرب إيران؛ لمنعها من الحصول على القنبلة النوويّة.
إن إسرائيل تضع عدة خيارات مفضلة لديها للتعامل مع القضيّة الفلسطينيّة، تشمل إسرائيل الكبرى، والتهجير، والوطن البديل، والخيار الأردني والوصاية المصرية، والخطوات أحاديّة الجانب، والدولة ذات الحدود المؤقتة. لكن الخيار الأكثر تفضيلًا هو بقاء الوضع الراهن، لأنه يجعل الاحتلال الإسرائيلي مربحًا «احتلال خمس نجوم»، والانتقادات الدوليّة له محدودة يمكن العيش معها، كما يمكن إسرائيل من استخدام ما يسمى «عمليّة السلام»، واستعدادها لاستئناف المفاوضات كغطاء للاستمرار في تنفيذ مخططاتها التوسعيّة والاستيطانيّة والعنصريّة والعدوانيّة، التي تهدف إلى استكمال خلق أمر واقع، خصوصًا في القدس، يجعل الحلول الإسرائيليّة هي الحلول الوحيدة المعروضة والقابلة للتنفيذ.
ونظرًا إلى أن أوساطًا إسرائيليّة متزايدةً تعرف أن هذا الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، بل يمكن أن يؤدي إلى ثورات أو انتفاضات فلسطينيّة جديدة، تستدعي تدخلًا عربيًّا ودوليًّا قد يفرض مبادرات لا تناسب إسرائيل، خصوصًا في ظل هذه الفترة من عدم اليقين والبركان المتفجر الذي تعيشه المنطقة.
في هذا السياق، تأتي تصريحات باراك عن التسوية أحاديّة الجانب كمحاولة للقضاء على الجمود الذي تعيشه المفاوضات، ولجعل الخطة الإسرائيليّة، في حال إقرارها، اللعبة الوحيدة في المدينة التي سيتنافس الأوروبيون والأميركيون وغيرهم على الإشادة بها بدلًا من أن يضغطوا على إسرائيل لقبول المبادرة العربيّة أو أي مبادرة أخرى لا تلائم إسرائيل، مع أنها محاولة لبيع البضاعة القديمة (الحكم الذاتي) بثوب جديد (الدولة المؤقتة).
باراك يحاول أن يواصل ما بدأه شارون في غزة، حيث استطاع من خلال خطة الفصل التي نفذها هناك، والتي مثّلت خطوة إلى الوراء في غزة من أجل التقدم عشر خطوات في الضفة وبث الفتنة بين الفلسطينيين من خلال عدم التنسيق مع السلطة، ما أدى إلى المساهمة في صعود «حماس» وصولًا إلى الاقتتال والانقسام؛ حتى يمكن استعادة زمام المبادرة وقطع الطريق على الخيارات والمبادرات الأخرى.
زملاء باراك الوزراء الذين انتقدوا تصريحاته لا يدركون مزايا المبادرة والخطوات أحاديّة الجانب، فحججهم تستند إلى الفشل الذريع لخطة الفصل في قطاع غزة (جدعون ساعر)، أو أن النزاع لن ينتهي إلى حل لما حصل عام 1967، وأن علينا أن نتحدث عن طريق المفاوضات، وليس عن حل (موشيه يعلون)، أو أن حالة باراك ميئوس منها، لأنه لا يرى ولا يفهم ما يجري هنا منذ الانسحاب الإجرامي من قطاع غزة (داني ديان رئيس مجلس المستوطنات).
إن الخطوة الأحاديّة قد تكون مجدية ما دامت التسوية النهائيّة متعذرة، مع أنها سلاح ذو حدين كما يقول الصحافي الإسرائيلي دان مرغليت، وعلينا كما أرى أن نستعد لاحتمال أن تصبح مطروحة في العام القادم، خصوصًا إذا فاز باراك أوباما بفترة رئاسيّة ثانية.
ما يعزز هذا الاحتمال طلب أوباما من الرئيس «أبو مازن» ألا يتخذ أي خطوات أحاديّة، مثل الذهاب إلى الأمم المتحدة، أو إلى مصالحة لا تلبي شروط اللجنة الرباعيّة مقابل وعد أوباميّ جديد يقضي بأن يعطي الأولويّة في فترة رئاسته الثانية لاستئناف المفاوضات والتوصل إلى حل. وإذا صدقت توقعات «هآرتس» بأن تصريحات باراك منسقة مع نتنياهو، فهذا يدل على خطة استباقيّة لإجهاض أي تحرك فلسطيني عربي أو أميركي أو دولي يضع الجميع أمام أمر واقع سيتبارى الجميع على مدحه، بالرغم من أنه لا يلبي ما يطالبون به، لأنه سيكون أفضل من استمرار الوضع الحالي.
الأهم مما سبق، أن إسرائيـــل مـــنذ الهجرة الصهيونيّة الأولى لفلسطين وبعد قيام إسرائيل واحـــتلالها لبقيّة فلسطين والجولان وسيناء في حرب 1967، اعتمــــدت سياسة خلق الحقائق الاحتلاليّة والاستيطانيّة علــى الأرض التي يمكن تسميتها بالخطوات أحاديّة الجانب، حـــتى بعد توقيع اتفاق أوسلو الذي ينص على الامتناع عن القـــيام بمثل هذه الخطوات، لأنها تعتمد على أنها الدولة المــحتلة القويّة، وعدم وجود رد فلسطـــيني أو عربــي أو دولــي رادع لها، بحيث تفرض الوقائع ثم تـــحاول أن تحصل على الشرعيّة لــها ثم تــبدأ بخلـق حقـائق جـديدة… وهكذا.
في ظل الهوة الواسعة والمتزايدة بين الموقفين الفلسطيني والإسرائيلي بعد اتجاه اسرائيل نحو المزيد من التطرف والتوسع والعنصريّة لدرجة وضع شروط تعجيزيّة جديدة، مثل الاعتراف بإسرائيل كدولة يهوديّة، تصر على تضمينها بأي اتفاق سلام مع الفلسطينيين، وبعد الثورات والمتغيرات العربيّة وصعود الإسلام السياسي، التي تُحَسِّن الوضع الإستراتيجي الفلسطيني على المدى البعيد؛ لن يستطيع الرئيس «أبو مازن» أو أكثر الفلسطينيين اعتدالا أن يقبل ما قبله هو أو سلفه ياسر عرفات سابقًا، أكان في مفاوضات كامب ديفيد عام 2000 ومباحثات طابا عام 2001، أو أثناء المفاوضات مع حكومة أيهود أولمرت عام 2008، فكيف سيقبل أقصى ما يمكن أن تعرضه إسرائيل حاليًّا، وهو دولة ذات حدود مؤقتة أقل مما كان مطروحٌ سابقًا؟! لذا من المحتمل أن تصبح الخطوات الأحاديّة إحدى المبادرات التي ستقدم عليها إسرائيل إذا استمر وقف المفاوضات.
وهنا يجب ألا تخدعنا تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية التي رفضت تصريحات باراك حول الخطوات الأحاديّة، ودعت إلى استئناف المفاوضات، لأن هذا الرفض قابل للتبخر، مثلما تبخرت الوعود الأميركية السابقة، بحيث تصبح الخطوة الأحاديّة الإسرائيلية القادمة خشبةَ الخلاص التي تمنع «دفن عملية السلام» الميتة منذ زمن. يجب ألا ننسى أن خارطة الطريق الدولية تضمّنت خيار الدولة المؤقتة، ولكنها طرحته كاختيار وليس كالتزام. يرغب الكثير من أعضاء هذه الحكومة تغيير النظام القضائي الإسرائيلي لجهة إضعافه والهيمنة عليه من جانب الكنيست والحكومة، لاعتبارات عدة أهمها أن هؤلاء المتطرفين يعتبرون المحكمة العليا في إسرائيل وأغلب القضاة مدنيين يساريين كفرة، وبالتالي يودّون استغلال جنوح المجتمع الإسرائيلي لليمين كي يفرضوا إرادتهم المتطرفة على باقي المجتمع من خلال الكنيست والحكومة، ضاربين عرض الحائط بنظام الفصل والتوازن، الذي يضمن عدم تغوّل أيٍّ من السلطات الثلاث على الأخرى، والذي يشكل أحد أهم الركائز لأي دولة تدّعي الديمقراطية نظامًا لها. وفي حين أن نتنياهو ظل مدافعًا طيلة حياته السياسية عن استقلال النظام القضائي الإسرائيلي، فإن حاجته لهؤلاء المتطرفين لتشكيل الحكومة، وسنّ قوانين جديدة تضمن بقاءه خارج السجن، أدّت إلى تبنّيه لهذا الانقلاب القضائي الذي يدعوه زورًا بـ”الإصلاح القضائي”، مثلما دعا ترامب خطته لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي زورًا أيضًا بـ”صفقة القرن”، وإلى تخلّيه عن حذره المعروف في اتخاذ سياسات خلافية داخل إسرائيل في السابق.
ولكن هذه التعديلات المقترحة تواجه اليوم معارضة غير مسبوقة داخل المجتمع الإسرائيلي اليهودي، ومن المهم أيضًا قبل الاسترسال في موضوع الانقلاب القضائي أن نذكر أمرَين: الأول هو أن الانقسام الداخلي الإسرائيلي يتعلق بالمجتمع الإسرائيلي اليهودي فقط، الذي تشعر بعض مكوّناته أن حقوقها المدنية تُنتهك اليوم من زمرة متطرفة حاكمة، ولم تشمل الاحتجاجات الإسرائيلية القائمة اليوم اعتراضات للانتهاكات التي تجري ضد الفلسطينيين، منذ إنشاء دولة إسرائيل.
تتوقع المجموعات اليهودية المناوئة لهذه التعديلات من فلسطينيي الداخل مشاركة الإسرائيليين اليهود في هذه الاحتجاجات، بينما ينأى المجتمع الفلسطيني الذي يحمل أفراده الجنسية الإسرائيلية عن ذلك، باعتبار أن الدعوة من أجل “الديمقراطية للجميع”، وهو شعار يرفعه المحتجون باستمرار، لا يشمل المكوّن الفلسطيني، فـ”الجميع” في نظر المحتجّين الإسرائيليين هو الجميع اليهودي فقط.
الأمر الثاني هو أن هذا الانقسام اليهودي الداخلي ليس انقسامًا حول العملية السلمية، بل هو انقسام يتعلق بطبيعة النظام السياسي فقط، ولا علاقة له بالسلام. لذا، تنضم للاحتجاجات اليوم عناصر من الجيش، واتحاد العمال وحتى بعض المتديّنين، وهو من هذه الناحية أكبر بكثير من أي احتجاجات أخرى شهدتها الدولة الإسرائيلية في الماضي، لأن ثمة غالبية إسرائيلية تشمل من صوتوا لنتنياهو، ممن ترفض هذه التعديلات وتخاف على مستقبل الدولة اليهودية.
في العودة إلى ماهية الانقسام، ما فتئ الإسرائيليون يدّعون أنهم يعيشون في ظل النظام الديمقراطي الوحيد في المنطقة، متغاضين تمامًا عن واقع أن الديمقراطية لا تتماهى مع التمييز ضد جزء من المواطنين هم السكان الفلسطينيون الأصليون. ولكن إسرائيل، لأسباب عدة، نجحت في جعل الكثير من دول العالم، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تردّد هذه المقولة، بل تؤمن بها.
أما اليوم، فإذا نجحت محاولات تقويض نظام الفصل والتوازن الإسرائيلي، فلن تستطيع إسرائيل بعدها لا إقناع مواطنيها ولا إقناع العالم بانها دولة ديمقراطية، حتى إن استثنت المواطنين العرب. وعلينا عدم التقليل من تداعيات هذا التقويض. إن من أهم الأسس التي بُنيت عليها العلاقة الإسرائيلية الأميركية، ليست فقط بين الإدارات الأميركية المتعاقبة وإسرائيل، بل أيضًا بين الجالية اليهودية الأميركية ويهود إسرائيل، وهو الشعور الغالب في الماضي أن إسرائيل وأميركا تتقاسمان قيمًا مشتركة هي الديمقراطية والليبرالية. ثمة شعور يتزايد اليوم داخل الجيل الجديد للجالية اليهودية الأميركية لا يرى هذه القيم المشتركة كما يراها الجيل القديم، بل يشهد بصورة متزايدة دولة تحتل الغير وتمارس التمييز العنصري ضد جزء من مواطنيها، وهم الفلسطينيون تحت الاحتلال، وهي اليوم تقوّض أهم ركائز الديمقراطية. وفيما قد لا يعني ذلك تحوّلًا آنيًا في السياسة الأميركية نحو إسرائيل، فالخطأ البالغ ألّا يتم استغلال هذه النقطة سياسيًا وإعلاميًا لفضح الخطاب السياسي والإعلامي الإسرائيلي في العالم بأسره. إضافةً لذلك، ترغب هذه الحكومة الإسرائيلية في سنّ قوانين جديدة لا تعترف بيهودية الكثير من اليهود في العالم، بما في ذلك في الولايات المتحدة، فضلًا عن قوانين ضد اليهود غير المتديّنين في إسرائيل، وضد المسيحيين أيضًا. يجري كل ذلك بينما يقف العالم العربي متفرّجًا على ما يجري، وكأن الأمر لا يعنيه.
وبينما يواصل العالم الغربي التركيز على ترداد دعمه لحل الدولتين، من دون إقران ذلك بأي خطة واقعية لترجمته، ثمة فرصة واقعية إن أُحسن استغلالها لفضح الممارسات العنصرية الإسرائيلية والتركيز على مقولة ديمقراطية إسرائيل وممارستها للأبرتهايد، ما يمكن أن يجلب للجانب العربي شركاء جددًا لم يكونوا من مناصري القضية الفلسطينية في السابق. ما يجري في إسرائيل هو بداية تحول خطير قد يكون في صالح الجانب الفلسطيني والعربي، إن تم تبنّي مقاربة واستراتيجية جديدتَين للتعامل مع دولة الاحتلال والتمييز العنصري.
لقد أثبتت الاتفاقيات الإبراهيمية عجزها عن لجم إسرائيل، أو تليين مواقفها، أو إعطاء الفلسطينيين حقوقهم المشروعة. ولن تنجح سياسة التكيف العربي مع إسرائيل في لجم نظام إيديولوجي صهيوني متديّن متطرّف يؤمن بأن لا حق للفلسطينيين في الوجود على أرضهم. كذلك، لن يفعل تعظيم التعاون الأمني والاقتصادي مع إسرائيل شيئًا لتليين الموقف الإسرائيلي، بل ستستخدمه إسرائيل لممارسة المزيد من الضغط على كل من يضع جزءًا من قطاعاته الحيوية بيدها. مطلوبٌ اليوم مقاربة علمية ممنهجة للتعامل مع إسرائيل التي تحفر حفرة عميقة لنفسها، وليس سياسات تساعدها على الخروج من هذه الحفرة.