بعد أكثر من ثلاثة أشهر على أسوأ حرب شهدها العالم، لم تحقق إسرائيل هدفا واحدا من أهدافها المعلنة؛ فلم تستطع استعادة أسراها بالقوة كما زعمت، ولم تستطع القضاء على حماس وفصائل المقاومة، وفشلت فى تنفيذ مخطط التهجير الطوعى أو القسرى لأهل غزة، رغم أنها مدعومة من خمس دول هي الأغنى والأقوى فى العالم (أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا)، ورغم أنها لاتحارب جيشا نظاميا، وإنما تحارب مجموعات من المقاومين المحاصرين، الذين لايملكون غير أسلحة تقليدية وإرادة صلبة، وليس لديهم خطوط إمداد للسلاح والعتاد.
ومن يطالع وجوه القادة الإسرائيليين وهم يتحدثون عما حققوه فى الحرب يتأكد أن هذه الوجوه العابسة المنكسرة ليست لمنتصرين، وإنما لأناس يتحاملون للتغطية على خيباتهم أمام شعبهم الذى فقد الثقة بهم، وأمام الحلفاء الذين تيقنوا من فشلهم، وأيقنوا أن جرائم الحرب والاغتيالات وقتل المدنيين وتدمير المنازل والمستشفيات والمدارس ومراكز الإيواء وتخريب المزارع لا يمكن أن تكون علامات للنصر.
على الجانب الآخر تقف المقاومة شامخة بصمودها الذى لم يشهد له العالم مثيلا، وبأدائها البطولى فى ميادين الحرب، وبصدق كلمتها، وسلوكها الإنساني الراقى، الذى أبطل أكاذيب الأبواق الصهيونية عن قتل الأطفال واغتصاب الأسيرات وتعذيب العجائز، وبصمود شعبها البطل الذى لم يتذمر من تضحياته العظيمة، ولم ينقلب عليها كما كان يخطط العدو، بينما حدث الانقلاب فى الجانب الإسرائيلى، فالشارع هناك فى حالة غليان بسبب قضية الأسرى، والرعب من صواريخ المقاومة، والهجرة العكسية للخارج صارت ظاهرة، ومجلس الحرب يشهد صراعا علنيا بين السياسيين والعسكريين، والخلاف مع الحلفاء يتسع يوما بعد يوم، خاصة بعد رفض الإدارة الأمريكية محاولات نتنياهو لتوريطها فى حرب إقليمية مع إيران.
ووفق المعايير الموضوعية للنصر والهزيمة فإن المقاومة الباسلة صنعت معجزة حقيقية بسلاحها وصمودها وصمود شعبها، كما صنعت مجدا تاريخيا وأصبحت محور العالم، وهي اليوم قوة عربية عسكرية وسياسية، واستطاعت أن تحيي القضية الفلسطينية التى كان الإسرائيليون يتباهون بأنهم أغلقوا ملفها للأبد، وأن تفرض على كل الأطراف التفكير بجدية فى حل عادل ودائم لها، بل أحيت السلطة الفلسطينية ذاتها، وردت إليها اعتبارها، وجعلتها قبلة لاستقبال المسئولين الدوليين، بعد أن كانت متروكة للنسيان.
ويضيف المحلل العسكرى الإسرائيلى عاموس هاريل إلى ذلك أن “المقاومة أسقطت إسرائيل فى فخ استراتيجى صعب بعد هجوم 7 أكتوبر، وليس من الواضح كيفية الخروج من هذا الفخ الذى قد يتحول إلى بلاء دائم”.
وبينما يصر نتنياهو على ضخ الأكاذيب كل يوم، ويتحدث عن ضرورة استمرار الحرب لعدة أشهر قادمة حتى يتم القضاء نهائيا على حماس، التى مازالت تحتفظ بسلاحها وقدراتها، يقول جون كيربى منسق الاتصالات فى مجلس الأمن القومى الأمريكى : ” لايمكن القضاء على حماس كلها، ويجب على إسرائيل أن تتعايش مع بعض أفرادها الذين سيبقون أحياء بعد توقف الحرب، لأنه لا يمكن القضاء على الأيديولوجيات، كما لا يمكن القضاء على عقيدة حماس”.
ويبدو أن التباين بين الموقفين الإسرائيلى والأمريكى آخذ فى التصاعد، ومن أوضح علامات ذلك سحب الولايات المتحدة لحاملة الطائرات (جيرالد فورد) التى أرسلت إلى الشرق الأوسط لدعم إسرائيل بعد هجوم طوفان الأقصى، وهو ما وصفته صحيفة (ها آرتس) بأنه “خبر ليس جيدا لإسرائيل، ورهان خاطئ من جانب أمريكا، ربما يفسر على أنه فرصة لأعدائها للقيام بالمزيد من الأعمال الخطرة”.
وذكرت شبكة (سى إن إن) الأمريكية أنه من المرجح أن يكون قرار سحب حاملة الطائرات بسبب استياء البيت الأبيض من حكومة نتنياهو لارتفاع أعداد الضحايا المدنيين، وتحذيرالرئيس بايدن من أن تحقيق الأهداف العسكرية فى غزة أصبح صعبا جدا، بعد تراجع الدعم الشعبى العالمى لإسرائيل.
كما حدث تحول مماثل فى الخطاب الأوروبى تجاه إسرائيل من الدعم الكامل إلى التحذير من استمرار القتل الأعمى للفلسطينيين، ورفض التهجير القسرى لأهالى غزة، وانتقاد خطط إعادة احتلال القطاع، وتحديد مستقبله، والتأكيد على أن ذلك ليس من حق إسرائيل.
وفى حين تحتفظ الجبهة الفلسطينية بتماسكها وصمودها المدهش رغم الحصار الظالم والدمار الذى لحق بكل شبر فى غزة، فإن التقارير الإخبارية تتحدث عن تفسخ كبير فى الجبهة الإسرائيلية، وعن أزمة ثقة متزايدة داخل دائرة صنع القرار فى حكومة نتنياهو، وخلافات بين الحمائم الذين يتطلعون لإنهاء الحرب باتفاق سياسي والصقور المتطرفين الذين يضعون أهدافا غير واقعية لإحراج الجيش، وخلافات أخرى بين بعض الوزراء ورئيسهم نتنياهو، المتهم بإطالة أمد الحرب لحماية نفسه من المساءلة والمحاكمة إذا ما توقفت الحرب وفقد منصبه، ناهيك عن أزمة الثقة بين الحكومة والشارع الإسرائيلى، الذى يعتبرها ليست أهلا لقيادة إسرائيل، ولا لقيادة الحرب الدائرة حاليا.
ومؤخرا نشر يائير لابيد زعيم المعارضة الإسرائيلية مقالا فى صحيفة (جيروزاليم بوست) وصف فيه حكومة نتنياهو بأنها ضعيفة بائسة، وكارثة وطنية، تجر إسرائيل إلى انحدار غير مسبوق، وأنها لاتستحق التضحيات التى يقدمها الجيش، وأدان محاولات بعض الوزراء إهانة رئيس الأركان هرتسي ليفي، مستنكرا أن يقوم إيتمار بن غفير وزير الأمن القومى الذى يؤيد الإرهاب ولم يخدم فى الجيش بمهاجمة القادة العسكريين.