وبينما كان مجلس مدينة غرناطة يستعد للاحتفال السنوي بذكرى سقوط غرناطة وتسليم الأمير محمد الثاني عشر مفاتيح المدينة للاسبان في الثاني من يناير..كانت أروقة كلية الآداب بجامعة حلوان تشهد مناقشة واحدة من الرسائل العلمية المهمة باللغة الإنجليزية حول سقوط غرناطة..وهي الرسالة التى حصلت بها الباحثة الجادة والمجتهدة -بتعبير المحكمين- نهى المليجي على درجة الدكتوراة بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى ..
دفعني الموضوع الى الحرص على حضور المناقشات والنفس مشحونة بمشاعر الالم والحزن الشديدين للحرب الطاحنة على غزة وهي حرب إبادة وتطهير عرقي حقيقي فاقت ما يسمونه الهولوكوست ومحارق النازية. كان حديث النكبات طاغيا وما أصاب المسلمين قديما وحديثا يهيمن على الفكر.. نكبة في الأندلس ونكبة في فلسطين في العام ١٩٤٨..وإصرار على تكرار النكبة مع الحاح صهيوني غريب ووصلت الوقاحة إلى إعلان ذلك صراحة أنهم يريدون نكبة ثانية للفلسطينيين..وهذه المرة بإذن الله لن ينالوا غرضهم وبفضل الوعي المبكر للخطة الخبيثة والصمود الاسطوري للمقاومة على مدى ثلاثة أشهر حتى الآن.
من المفارقات أن الطريق الى الأندلس وما تحقق من حضارة زاهية كان لها فضلها وتأثيرها الكبير على أوروبا والعالم وظل إشعاع الحضارة الإسلامية هناك متوهجا على مدى ثمانية قرون..كانت بدايات الطريق مع واحد من المجاهدين والقادة الكبار من أبناء فلسطين الفاتح العظيم موسى بن نصيروهو من إحدى قرى الخليل بشمال فلسطين (كفر متري) وكان والده قائدا لحرس معاوية بن أبي سفيان ومن كبار معاونيه..وكان بن نصير حاكما على مصر مع بداية عهد الدولة الأموية..
سقوط غرناطة واقعة أو قل مصيبة كانت ولاتزال وستظل ملهمة للجميع في أقطار الأرض شرقها وغربها على السواء من يحبون الاسلام ومن يكرهون المسلمين من يوالون الغرب ومن ينظرون إليه بعين الريبة والشك بل والاتهام ايضا .. ولذلك لم يكن غريبا أن نجد العديد من الأعمال الإبداعية شعرا ونثرا مسرحا ورواية تستلهم التجربة وروحها وتنبش في اضابيرها وتحوم حول تخومها ملتمسة الدرس والعبرة واي عبرة..
ولعل هذه الجوانب كانت من المحاور الرئيسية التى حاولت الباحثة نهى مصطفي المليجي أن تتلمسها من خلال تقديم قراءة لأربعة من الروايات التاريخية حول سقوط غرناطة وهي: “غرناطة” (2016) للكاتب الكسندر جريس، و”يد فاطمة” (2011) للكاتب إلفونسو فالكونز،و “غرناطة” (2003) للكاتبة رضوى عاشور، و”ظلال شجرة الرمان” (1992) للكاتب طارق علي.
توضح الرسالة وجود روايات مختلفة لنفس الحدث التاريخي من خلال رؤية اثنين من الروائيين الغربيين واثنين من الروائيين غير الغربيين على التوازي مع قراءة لكتب تاريخية أخرى عن سقوط غرناطة تقدم وجهات نظر متعددة.
كما توضح كيف تمكّن كتاب الروايات الأربع وهم من جنسيات مختلفة من تحدي الرواية الغربية المعتمدة للتاريخ وإعادة كتابة حقبة سقوط غرناطة برؤية مختلفة تتعارض مع الرؤية التاريخية السائدة. تقدم الروايات مفهوما غير مألوف عن فترة الحكم الإسلامي في الأندلس وعن فترة الاسترداد الإسباني في محاولة لإعادة كتابة التاريخ وتحدي الحقائق التاريخية الراسخة لتلك الفترات.
وتناقش الرسالة قضية رفض نظرية التاريخية الجديدة للحقائق الثابتة والسرديات الكبرى إلى جانب قضايا أخرى مهمة..في المقدمة أوضحت الباحثة العلاقة بين الأدب والتاريخ ومدى قربهما من بعضهما البعض وقدمت خلفية تاريخية عن فترة الحكم الإسلامي وسقوط غرناطة عام 1492 حتى طرد آخر العرب من أصل إسباني عام 1609.
وخصصت فصلا لدراسة رؤية غير الغربيين لسقوط غرناطة كما في رواية “ظلال شجرة الرمان لطارق علي و”غرناطة” لرضوى عاشور. أوضحت فيه إلى أي مدى يمكن قراءة هذه الروايات في إطار نظرية التاريخية الجديدة. إلى جانب القاء الضوء على أساليب السرد الروائي التي اتبعها هؤلاء الكتاب لإعادة كتابة التاريخ.
وخصصت فصلاً آخر لدراسة الروايتين الغربيتين: “يد فاطمة”لإدلفونسو فالكونز و”غرناطة” لالكسندر جريس وكيفية رفض كل منهما للخطاب الغربي الرسمي الموحد للتاريخ بطرح تفسيرات بديلة له ذلك ويلقي هذا الفصل الضوء على أسالبب السرد الروائي التي استخدماها لمقاومة الهيمنة الثقافية والسياسية.
تختتم الرسالة بإظهار كيف تمكن الكتاب الأربعة من جنسيات مختلفة من تحدي الرؤية التي لاجدال فيها للتاريخ وإعادة كتابة تاريخ غرناطة من منظور جديد.وتظهر غرض كل كاتب منهم لإعادة كتابة التاريخ والأساليب السردية المختلفة بالإضافة الى توضيح كيف توجد قصص متنوعة لنفس الحدث التاريخي وهو سقوط غرناطة وكيف يصبح التاريخ نوعًا أخر من الخيال..
تشكلت لجنة الحكم على الرسالة من د.أسماء الشربيني أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة المنصورة ومقرر لجنة ترقيات الأساتذة ود.مها حسني عميد آداب حلوان المشرف على الرسالة ود.ايمان رسلان استاذ الأدب الإنجليزي المساعد بآداب حلوان..
الرسالة رغم أنها أعدت قبل طوفان الأقصى بكثير الا أنها جاءت في وقت مهم وحساس لتدق اجراس انذار كبرى وتقرع الأذهان والعقول وتبعث برسائل للقاصي والداني أن اعتبروا يا أولي الأبصار رسائل لمن يتجاهلون حقيقة ما يملكون من قوة ويستهينون بها..إلى من يغضون الطرف ويتعامون عن حقيقة مخططات الأعداء..إلى القاعدة الذهبية الأصيلة:اكلت يوم اكل الثور الابيض.
شبح سقوط الاندلس كان حاضرا وبقوة داخل المدرج رقم ٥٥ بمبنى كلية الآداب بحلوان وايضا مقاربات لآراء كثير من المحللين الغربيين وغيرهم حول ما يجري وتأكيد أهمية الموقف الاسلامي الواضح والقوي إزاء المخططات الغربية والمواقف غير المنطقية لبعض الأطراف الفاعلة ..
**دائما ما يتبادر إلى الذهن سؤال مهم عندما يأتي الحديث على ذكر الأندلس..فزاوية التفكير دائما محشورة في دائرة السقوط وأحاديث المؤامرات والنحيب والعويل على مجد زائل وماض تليد كان مجيدا حتى الروايات والمسرحيات على الرغم من أن الصفحات المشرقة والمضيئة أكثر من أن تحصى وممتدة على مدار ثمانية قرون وليس سنة أو سنتين بل ٨٠٠ ؟!
مع اننا والعالم ايضا يحتاج إلى ما يذكره بكل ما هو مشرق ومضيء وكل ما يضيف إلى سعادة البشرية ويسعى للارتقاء بالإنسان في شتى مجالات الحياة والى ما يدعم إنسانية الإنسان وسبل العيش المشترك والتعاون والتآخي وغير ذلك من قيم فقدها عالم اليوم وأصبحت البشرية كل البشرية متعطشة إليها ..
في تصوري لن نجد ارقى من نموذج الاندلس وفترة الازدهار الحضاري الإسلامي فيها وكيف كان نور الاسلام يسطع ويشرق على العالم كله ليس في الشرق فقط بل وفي كل جنبات أوروبا لينقذها وينقلها من عالم الظلمات والقهر والطغيان الى نور العلم والعيش في ظلال الإنسانية بالغة السمو والرفعة وبنماذج لم يعرفوها أو يألفوها من قبل ..
في تلك الفترة كان العالم الغربي يدرك تماما أنه إذا أرادت أوروبا أن تتطور وتخرج إلى عصر النهضة فلابد أن تتصل بمراكز الحضارة الإسلامية والعربية ومنها الأندلس..ويذكر كبار المؤرخين وتجمع المصادر المعتبرة أن المسلمين في الأندلس اتاحوا العلم ومصادره لمن يريد وبالمجان وكان يتم الانفاق بسخاء على العلماء ونشر الكتب ونسخها من جانب الأثرياء والأمراء والشيوخ أو من خلال نظام الوقف الإسلامي الرائع وكانت قواعده راسخة في دعم العلم والراغبين فيه من المسلمين أوأهل الكتاب.
يؤكد المؤرخون ان الأندلس بحواضرها قرطبة وغرناطة وأشبيلية وسرقسطة وطليطلة كانت مركزا لجذب طلبة العلم من أوروبا.بدأت الظاهرة بشكل فردي بهدف الدراسة والاطلاع على الكتب العربية ومن هؤلاء الراهب جربرت دي أورياك الذي اهتم بالعلوم الرياضية، وأصبح فيما بعد يعرف باسم البابا سلفستر الثاني (390-394هـ) وله دور بارز في نشر علوم العرب في أوروبا كذلك هرمان الكسيح (1013-1054م) وهو ابن أمير دالماسيا الذي اهتم بكتب الرياضيات والتنجيم.
فضلا عن ذلك كانت هناك بعثات علمية أرسلتها بعض الحكومات الأوروبية هدفها الاطلاع على مظاهر التقدم الحضاري في الأندلس والإفادة منها وأخذت تتزايد بشكل مستمر حتى بلغت سنة 312هـ في عهد الخليفة الناصر زهاء سبعمائة طالب وطالبة ومن بينها بعثة برئاسة الأميرة اليزابيث ابنة خال الملك لويس السادس ملك فرنسا وبعثة فيليب ملك بافاريا برئاسة وزيره ويلمبين الذي يسميه العرب وليم الأمين وتكونت من (215) طالبا وطالبة انتشروا في أنحاء الأندلس. والطريف أن ثمانية من أعضاء البعثة اعتنقوا الإسلام ورفضوا العودة إلى بلادهم ومن بينهم ثلاث فتيات. وبعثة ملك ويلز برئاسة ابنة أخيه تضم (18) فتاة من بنات الأشراف وكانت البعثة برفقة النبيل سفيلك رئيس موظفي القصر في ويلز واتجهت إلى مدينة أشبيلية وحظيت باعتناء من قبل خليفة الأندلس الذي أمر بالإنفاق عليها من بيت مال المسلمين.
كما امتازت هذه الحقبة كما تقول د.وجدان عناد بمركز إحياء التراث العلمي العربي بجامعة بغداد في بحثها عن تأثير الحضارة الأندلسية على أوروبا العلوم العقلية انموذجا..بمحاولة ملوك أوروبا استقدام علماء من الأندلس لتأسيس المدارس كما حصل في القرن التاسع الميلادي وما بعده عندما وقعت حكومة هولندا وسكسونيا وانكلترا عقودا مع تسعين من الأساتذة العرب في الأندلس بمختلف نواحي العلوم واختيروا ممن يجيدون الإسبانية واللاتينية فضلا عن ذلك فقد وقعوا عقودا مع مائتي خبير في مختلف الصناعات ولاسيما صناعة السفن والنسيج والزجاج والبناء وفنون الزراعة وهؤلاء قاموا ببناء أكبر جسر على نهر التايمز في انكلترا عرف باسم جسر (هليشم) وهو تحريف لكلمة خليفة الأندلس هشام الذي أطلق اسمه على الجسر كجزء من العرفان بالفضل لأنه أرسل هؤلاء الصناع، كما شيدوا قباب الكنائس في بافاريا إذ توجد في مدينة شتوتجارت الألمانية سقاية ماء باسم (أميديو) وهو تحريف لكلمة (أحمد) المهندس العربي الذي بناها فكان العصر البداية الأولى للتأثير الحضاري للأندلس على أوروبا.
كان الغربيون يدركون قيمة العلوم الإسلامية وتأثيرها ودورها في الحياة وتحقيق النهضة ويكفي أن نعرف أنه في لحظة سقوط غرناطة واسدال الستار على الحقبة الإسلامية وتدمير معالم الحضارة الإسلامية فيها قام الكاردينال خمينيس بجمع كل كتب الفكر الإسلامي وحرقها في ميدان باب الرملة باستثناء ٣٠٠ كتاب في الطب والعلوم وهي الكتب التي كانوا يدفعون فيها الغالي والثمين من أجل استعارتها وترجمتها. من ذلك أن الملك لويس الحادي عشر عندما أراد استعارة كتاب الحاوي في الطب لابن الرازي دفع مبلغا كبيرا من الذهب والفضة.
ابحثوا عن النور وانثروا الضياء في كل مكان عسى ربكم أن يرحمكم..
والله المستعان..
megahedkh@hotmail.com