سوف يرتكب الفلسطينيون والعرب خطآ استراتيجيا فادحا إذا صدقوا ـ مرة أخرى ـ أن أمريكا جادة فى حل الدولتين، وأن الإسرائيليين يمكن أن يقبلوا بوجود دولة فلسطينية إلى جانبهم على حدود 1967 وعاصمتها القدس، وأن المشكلة تتركز فى نتنياهو المتعجرف، الذى يرفض السيناريو الأمريكى لما بعد الحرب فى غزة، القائم على عناصر ثلاثة: التطبيع، وحماية أمن إسرائيل، ثم اتخاذ إجراءات تفضى إلى قيام دولة فلسطينية.
سوف نرتكب جميعا خطأ تاريخيا مهلكا إذا صدقنا ـ مرة أخرى ـ أن الرئيس الأمريكى جو بايدن يضغط على نتنياهو لكي يقبل بقيام دولة فلسطينية، ولكي يخفف من حجم الدمار والقتل فى غزة، ويسمح بدخول المساعدات الإغاثية للمدنيين المحاصرين فى القطاع، وأن نتنياهو يرفض الضغوط الأمريكية، ويصر على تنفيذ مخطط الإبادة بطريقته الجنونية، وأن ذلك قد أحدث شرخا فى علاقة الرجلين، ووصل الأمر إلى أن يغلق بايدن التليفون فى وجه نتنياهو أثناء مكالمة صاخبة بينهما قى 23 ديسمبر الماضى.
هذا الطرح الأمريكى مجرد وهم، تلجأ إليه الإدارة الأمريكية دائما فى إطار توزيع الأدوار، فالحقيقة التى لا مراء فيها أن القضية أكبر من نتنياهو، الذى هو ذراع المرحلة الحالية لاستكمال المشروع الصهيونى الكبير، هذا المشروع الذى خطط له الغرب وتعهده بالرعاية والتمويل عبر ما يزيد على قرنين من الزمان، ليكون بديلا للحروب الصليبية الفاشلة، وقد أكد بايدن نفسه ذلك فى مناسبات عديدة حين قال: “لو لم تكن إسرائيل موجودة لعملنا على إيجادها”.
المشكلة التى تحول دون إقامة الدولة الفلسطينية ليست فى نتنياهو، وإنما فى إسرائيل؛ الدولة والشعب، الحكومة والمعارضة، العسكريين والمدنيين، الأحبار والمتدينين والعلمانيين، وفى الغرب الأوروبى الأمريكى، وأيضا فى الفلسطينيين والعرب والمسلمين، واختصار القضية فى نتنياهو ليس إلا نوعا من تسويق الوهم، حتى نتصور أنه إذا ذهب نتنياهو فسوف ينتهى الصراع وتقام الدولة المنتظرة، ومن ثم ينصب اهتمامنا على متى وكيف يذهب نتنياهو، فإذا ذهب جاء من هو أسوأ منه، وهكذا تكر الأيام والشهور والسنون، حتى تضرب جذور إسرائيل فى الأرض، فتصبح أشد رسوخا، وأوسع تمددا.
ولا أدرى إن كان من حسن الحظ أو من سوئه، أن نتنياهو المتغطرس البغيض لايهتم كثيرا بتسويق الوهم، ولا يبحث عن توازنات مرحلية، وإنما هو وأشباهه ـ ترامب مثلا ـ يتعاملون بعجرفة وصلافة واضحين، وليس لهم فى “لوع” السياسيين نصيب وفير، ثم إن وجود نتنياهو فى السلطة لأطول مدة حكم فيها رئيس وزراء إسرائيل منذ نشأتها يعد علامة على تحول كبير فى المجتمع الاسرائيلى نحو اليمين المتطرف، المنتفخ بقوة السلاح، النهم للاستيطان وضم الأراضى، الذى لايهتم كثيرا بالكلام عن السلام والأمان والتعايش، مثلما كان يفعل حزب العمل القديم، الذى لعب دور الضحية عندما كان العرب يتحدثون عن تحرير فلسطين، فلما تحدث العرب عن السلام والخيار الاستراتيجى قفزت إسرائيل إلى عصر الليكود، وما بعد الليكود.
منذ أن أعلنت المبادرات العربية للسلام فى قمة فاس عام 1981 وقمة بيروت 2002 لم تستجب حكومات إسرائيل المتعاقبة لأي منها، ومنذ اتفاق أوسلو (غزة وأريحا أولا) لم تتحدث إسرائيل عن الدولة الفلسطينية، وكلما تسارعت الهرولة العربية إلى التطبيع ازدادت إسرائيل تطرفا وزهدا فى السلام المزعوم، وازدادت ثقتها بقدرتها على تحقيق أحلامها التوراتية، حتى إذا جاء الطوفان تحولت الأحلام إلى كوابيس، فيها صواريخ وأنفاق وحرب عصابات وأسرى وهزائم وخسائر، وفيها محكمة العدل الدولية، وربما يصل الأمر غدا إلى المحكمة الجنائية الدولية، وما هو أكثر من ذلك.
والآن ليس فى اسرائيل شريك موثوق به للعمل من أجل سلام حقيقي(عادل وشامل) وفق القرار 242، وليس فيها من يجرؤ على التصريح بالانسحاب من الأراضى المحتلة عام 1967 لتكون وطنا للفلسطينيين، ولا حتى زعيم المعارضة يائير لابيد عدو نتنياهو اللدود، وليست التظاهرات التى نراها عندهم اليوم من أجل السلام ونبذ الحرب، وإنما من أجل الأسرى، الذين بسببهم تتألم إسرائيل وحلفاؤها، ولو لم يكن هؤلاء الأسرى بيد المقاومة ما كان هناك مجال لأي حديث عن صفقات توقف العدوان.
صحيح أن نتنياهو لم يحقق هدفا واحدا من الأهداف التى أعلنها بكل عنجهية فى بداية الحرب، وصحيح أيضا أن أمريكا وحفاءها غير راضين عن أداء نتنياهو وجيشه الذى سبب لهم كثيرا من المشكلات، وكانوا يودون أن يحقق انتصارا خاطفا بالطريقة التى اعتادها فى الحروب السابقة، وما يهمهم الآن هو مساعدته فى تحقيق انتصار من أي نوع، حتى لايخرج من الحرب مهزوما مكسورا، فيكون فى ذلك هزيمتهم وانكسارهم، ولا يخرج مدانا فيكون فى ذلك إدانتهم بالتبعية.
ثم إن المشكلة ليست فى تطرف إسرائيل وحدها، وإنما تطرف الداعمين الغربيين، وعلى راسهم أمريكا بالطبع، الذين يتحدثون عن السلام والعدالة الدولية، لكن مواقفهم العملية عكس ذلك تماما، فهم يرفضون وقف إطلاق النار، بل يحاربون مع إسرائيل كتفا بكتف، ويغرقونها بالمال والسلاح والمقاتلين، ويدافعون عنها فى المحافل الدولية، وإذا استدعى الأمر سيحاربون من أجلها، كما يحدث فى اليمن، فلم تعد هناك مساحة فاصلة بينهم وبينها كما كانوا يوهموننا، وتلك إحدى الحقائق المهمة التى كشفتها الحرب.