لم يكمل تعليمه.. غناؤه فى فرح ابنة أحد المقاولين وراء شهرته.. وزفاف جيهان والسادات «وش السعد»
لكن ابنته «فرفش» تؤكد فى حوار منشور أجرته معه الزميلة سماح جاه الرسول، أنه مولود فى «أبوتيج» بأسيوط فى 1917 وأنه ظل هناك مع أخويه لفترة عاملًا فى ورش الطوب وفى المعمار، حيث كان والده من رجال المقاولات التى دعته لأن «يتوسع»، ولأن الرزق فى الصعيد قليل جاء للقاهرة وأقام فى شارع المأمون بالجيزة.. وهناك لا يزال بعض أفراد عائلة الجيزاوى وبالتحديد ابنه عبدالله.. فيما ذهب عمر نفسه إلى فيلا فى شارع نصرالدين بعدما فتحت الدنيا أبوابها له.
لم يكمل عمر سالم – وهذا اسمه الحقيقى – تعليمه، قرأ فى الكُتّاب لكنه أحب العمل مع والده.. وعندما كان يشارك العمال رفع الأسمنت على السقالة، كان يغنى وسمعه أحد المقاولين فطلب مشاركته فى حفل زفاف ابنته، لينطلق بعدها فى كل أفراح المنطقة ومنها لمناطق أخرى قريبة حتى وصل إلى فرح جيهان على أنور السادات، ومن الفرح إلى عالم السينما حيث أصبح أحد ثلاثى «الرحيمية قبلى».
البوليس السياسى اتهمه بـ«الشيوعية» رغم أنه لا يعرف عنها شيئًا
اضطرت ظروف الحرب العالمية الأولى وتداعياتها، أسرة الجيزاوى لترك أسيوط والرحيل للقاهرة.. وذهب بقدميه إلى زفاف أنور السادات.. لكن البوليس السياسى الذى كان يتابع نجاحاته وسخريته من الملك فاروق، ذهب إليه رغم أنفه بدل المرة مائة مرة.. حتى أصبح الرجل مطاردًا بتهمة «الشيوعية».
ليست نكتة.. ذلك الرجل الصعيدى الذى يلف عمامته بطريقة كوميدية ويغنى بلسان معوج ينادى على عطارته.
«معانا الحنة الحجازى.. حنِّى حبايبك واتحنى
الدنيا بحالها ما تجازى.. ورقة من ورق الحنة».
أصبح رجلًا مطاردًا بتهمة لا يعرف عنها شيئًا لا لشىء سوى أنه رفض أن يمدح الملك فى مونولوجاته.. وإذا كان قد استطاع أن يهرب من شبح الفقر ويسكن فى فيلا ويركب سيارة، فإنه لم يستطع أن يهرب من كلاب السلطة، فقرر أن يعتزل الغناء والتمثيل ويجلس فى بيته بعد أن قدم أول أفلامه السينمائية.. وقتها كان محمود الشريف يغنى على لسان أحلام المصرية «يا عطارين دلونى.. الصبر فين أراضيه».. ولم يصبر الجيزاوى كثيرًا فقد أنقذته ثورة يوليو من عزلته بعد أن عزلت فاروق وحاشيته ليعود عمر ويصبح أحد رجالها ومناصريها الأشداء.. بالمال.. والغناء. فى كل خطوة سلامة.. ومن نجاح لنجاح
غنى «سالمة يا سلامة» بعد نجاة عبدالناصر من الاغتيال.. وفرنسا طبعت صورته على «علب الكبريت»
انحاز عمر الجيزاوى للثورة مبكرًا.. وحينما نجا عبدالناصر من محاولة اغتياله فى المنشية غنى له «سالمة يا سلامة».. وعندما ضحك ناصر على الأمريكان وبنى بأموالهم برج القاهرة.. غنى الجيزاوى.
وكان الطبيعى أن يستفيد الجيزاوى الذى كان يلحن معظم مونولوجاته من الموروث الشعبى الذى يعرفه، فغنى «صعيدى ولا بحيرى.. وعلى حسب وداد قلبى» قبل أن يعيد عبدالحليم حافظ غناءها بعد سنوات.
ويغنى أيضًا لخير الإصلاح الزراعى «يا حلوة ضمى الغلة».
يا بيضة ضمى الغلة
يا سمرا ضمى الغلة
وربما لا يعرف بعض عشاق الجيزاوى ممن يحبون ابتسامته وهو يردد «اتفضل قهوة.. والنبى تيجى لع.. اللع» أنه سافر إلى معظم دول العالم بفرقته.. وعرض على مسارح إيطاليا وباريس، ولأنه حقق نجاحًا مدويًا فى فرنسا.. طبعوا صورته على علب الكبريت.. وتزوج من إحدى الإيطاليات التى كانت تذهب للفرجة عليه كل يوم.. وفعلها فى فرنسا أيضًا.. وفى لبنان.. وكما تؤكد ابنته تزوج عشر مرات.. وأنجب عشر مرات.. وذاع صيته الآفاق.. لكنه لم ينس أبدًا أنه صعيدى ومع الثورة.. فلما جاء العدوان الثلاثى ومن بعده النكسة وحرب الاستنزاف.. شارك فى حفلات المجهود الحربى.. وغنى للكثيرين من الشعراء الكبار من أمثال مصطفى الطاير وحسيب غباشى.. وأيضًا عبدالرحمن الأبنودى الذى كتب له أغنية نادرة اسمها «البندقية» لحنها حسن نشأت.
هذا الرجل العنيد الذى لم يهزمه الفقر.. ولا البوليس السياسى.. ولا الموت.. ولهذا قصة طريفة.. فقد كان الجيزاوى يجلس بجوار سائقه الخاص فى سيارته، وهم عائدون من سهرة ريفية وإذا بالسيارة تنحرف وتغطس فى الترعة وينجو السائق الذى قفز فيما تستقر السيارة لمدة ١٣ ساعة فى بطن الترعة.. حتى جاءت الشرطة والإسعاف ونقلت الجيزاوى ميتًا إلى المشرحة.. وعندما جاء الطبيب ليمارس عمله فى تشريح الجثة، فوجئ بعمر ينتفض جالسًا ليصاب الطبيب بصدمة أودت بحياته.. وعاش عمر.
عاش عمر.. سنوات بعد تلك الواقعة.. لكن أغنية وطنية قتلته.
كان الرجل قد تم تكريمه من جمال عبدالناصر فى حياته.. ومن الرئيس السادات أيضًا.. لكن فى احتفالات مصر بعودة سيناء فوجئ الجيزاوى بالفنانة شادية التى سبق وأن شاركته التمثيل فى عدة أفلام، تغنى من ألحان جمال سلامة «ياللى من البحيرة وياللى من آخر الصعيد».. وزمجر الرجل، فقد سجل هذه الأغنية من كلمات مصطفى الطاير وألحانه فى بداية الخمسينيات بالإذاعة المصرية.. فكيف ينسبونها لجمال سلامة؟.
وذهب الرجل إلى المحكمة.. وقضت جمعية المؤلفين والملحنين بنسبة نصف اللحن والأغنية لجمال سلامة ونصف اللحن لعمر الجيزاوى.. ونصف كلماتها لمصطفى الطاير والنصف الآخر لعبدالوهاب محمد.. لكن ما أفجع الرجل وجاب له جلطة هو شهادة عبدالوهاب.. أى نعم محمد عبدالوهاب الذى تعود على اقتباس جمل لحنية كاملة ونسبها لنفسه، رأى أن «ياللى من البحيرة وياللى من آخر الصعيد» مجرد نداء زى «يا أيها الناس».. لا يمكن نسبته لأحد.. أصيب الجيزاوى بالاكتئاب.. وأودت به الجلطة إلى شلل أقعده حتى وفاته فى ١٩٨٣.. فيما ظلت ابتساماته.. ومونولوجاته.. وألبومه الأول الذى طبعته شركة «فيليبس» ثم أعادت نجمة العتبة وشركات أخرى طباعته فى «شرايط كاسيت» ترن فى أذنى حتى الآن:
ياللى من البحيرة وياللى من آخر الصعيد..
النهاردة نصرة.. وكل يوم تزيد