فى كل جلسة تعقدها محكمة العدل الدولية يبهرنا مشهد الافتتاح المهيب، حين يدخل القضاة الأربعة عشر إلى قاعة المحكمة بترتيب محكم، وخطوات بطيئة محسوبة، يرتدون زيهم الوقور، منتصبي القامات، حاملين دفاترهم إلى صدورهم، ثم يتخذون مواقعهم على منصتهم العالية، وأمامهم الأرائك مصفوفة على الجانبين، حيث يجلس المتنازعون والمحامون والمتابعون والمحللون، وتسلط الأضواء والكاميرات على القاعة الفخيمة، لتنقل وقائع الجلسة إلى من تتعلق أنظارهم بالكلمة التي ستخرج من هؤلاء القضاة، ترفع الظلم عنهم وترد إليهم حقوقهم، لكن ما إن ينفض السامر، حتى يقال إن المحكمة ليس لديها آليات لتنفيذ أحكامها، وإن قراراتها غير ملزمة.
حدث هذا ثلاث مرات في القضية التى رفعتها دولة جنوب إفريقيا ـ مشكورة ـ ضد إسرائيل لإيقاف حرب الإبادة الجماعية التي تشنهاعلى شعب غزة، وقبل كل جلسة يرتفع سقف الطموحات، حتى يظن الناس أن المحكمة سوف تنطق بالحق القاطع، وتضرب على يد الظالم بإرادة دولية، ثم بعد أن تقول المحكمة كلمتها، وتقرأ نصوصها الطويلة المملة، يبدأ أوركسترا المحللين في العزف، لنكتشف أن حكم المحكمة بلا أدنى فائدة، وأن كل ما شاهدناه كان ديكورا للعدالة الدولية لا أكثر.
وما حدث في محكمة العدل حدث مثله في مجلس الأمن، الذي فشل خلال عدة جلسات فى وقف العدوان الإسرائيلى على غزة بسبب الفيتو الأمريكى، ثم توصل الأسبوع الماضى إلى قرار بوقف فوري لإطلاق النار في شهر رمضان، يفضي إلى وقف دائم ومستدام للحرب، والإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع الرهائن ووصول المساعدات الإنسانية إلى غزة، ولكن قبل أن يجف الحبر الذي كتب به القرار كانت التصريحات الرسمية الصادرة من أمريكا تؤكد أن القرار غير ملزم، وتم تفريغه من مضمونه إرضاء لإسرائيل، التي كانت قد أعلنت غضبها لامتناع أمريكا عن استخدام الفيتو ضده.
وفي غضون ذلك استطاعت إسرائيل ضرب وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) التابعة للأمم المتحدة في مقتل، بسبب اتهام لم يقم عليه دليل، بأن بعض موظفيها ساندوا أو شاركوا في هجوم 7 أكتوبر 2023، مما أدى إلى توقف 17 دولة عن تقديم مساهماتها المالية إلى الوكالة، وبالتالي توقف أنشطتها، وخروج كثير من موظفيها من غزة.
وإلى جانب التقارير العديدة التى قدمها موظفو الأمم المتحدة عن مأساة شعب غزة تحت القصف الإسرائيلي المستمر للمدنيين ومساكنهم، وللمستشفيات والمدارس والمساجد، جاء أنطونيو جوتيريش أمين عام الأمم المتحدة بنفسه مرتين إلى معبر رفح، ورأى بعينه مئات الشاحنات التي تقف على الحدود دون أن تستطيع الدخول إلى غزة، وأدلى بتصريحات نارية أدان فيها إسرائيل، لكنه لم يستطع أن يغير من الأمر شيئا.
بالطبع هذا ليس جديدا علينا، فقد أكدت تجارب السنين والأحداث أن مجلس الأمن ومحكمة العدل، وكل المنظمات والهيئات التابعة للأمم المتحدة، ليست إلا أدوات في أيادى الدول الكبرى، تستخدمها متى تشاء وكيفما تشاء، وأن النظام العالمي الذي أسسته الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية لايمثل إلا إرادتها، ولا يستهدف غير تأمين مصالحها، ولا يحقق العدالة إلا لما تراه عدلا، وهذا ناتج عن إيمان هذه الدول بأنها هي وحدها التى تمثل العالم المتحضر، وهي التى تحدد مصالحه، وهي وحدها التي تستحق العدالة والديمقراطية والحرية والرفاهية والأمن والسلام.
وحتى المحكمة الجنائية الدولية المستقلة عن الأمم المتحدة، والمختصة بمعاقبة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، هذه المحكمة لاتخضع لولايتها أمريكا وإسرائيل وبعض الدول الكبرى، وأعلنت الولايات المتحدة صراحة أنها تعارض تدخلها في الشأن الفلسطيني حماية لإسرائيل، وقد فرض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب عام 2020 عقوبات على كبار المسئولين في المحكمة، عندما تجرأوا وأعلنوا استعدادهم للتحقيق فيما إذا كانت القوات الأمريكية قد ارتكبت جرائم حرب في أفغانستان.
لكن هذا لم يمنع أمريكا من تشجيع المحكمة على ملاحقة الأشخاص الذين لا يتفقون مع توجهاتها، بمن فيهم رؤساء دول ووزراء وقادة جيوش وزعماء حركات تحرير وطنية، ووصل بها الأمر إلى دعوة دول العالم إلى القبض على الرئيس الروسي فلاديمير بوتن وتقديمه إلى الجنائية الدولية لمحاكمته بسبب حرب أوكرانيا، لكنها قطعا لن توافق على إجراء مماثل مع بنيامين نتنياهو أو وزرائه الذين وصفوا الفلسطينيين بأنهم (حيوانات بشرية)، ودعوا إلى ضربهم بقنبلة نووية، أو الحاخامات الذين يطالبون علنا بإبادة الشعب الفلسطيني، استنادا إلى نصوص تلمودية أسطورية.
لذلك يجب أن نعذر الشعوب المستضعفة التى يئست من عدالة النظام العالمي، وتراها عدالة انتقائية ظالمة غير منصفة، وتقرر الاعتماد على نفسها وعلى قدراتها الذاتية فى انتزاع حقها في الحياة وفي الحرية بقوة السلاح، مهما كلفها ذلك من أثمان باهظة بسبب عدم توازن القوى مع المحتل الغاصب، ومهما عانت من اتهامات باطلة بالإرهاب والعنف والتشدد.
كما يجب أن نعذر ونحيي الشعوب الغربية التى لم تعد تثق أيضا فى عدالة النظام الدولى، وتخرج يوميا في تظاهرات عارمة ضد إرادة حكوماتها الخاضعة للهيمنة الأمريكية، والصامتة عن الحق، تطالب بضرورة وقف الإبادة الجماعية في غزة، وتهتف بتأييد الحق الفلسطينى ومقاطعة إسرائيل، ورغم أن الاستجابة لهذه التظاهرات تأتي متكاسلة بطيئة، إلا أنها في النهاية أحدثت تأثيرا مهما في البلاد التى كانت أهم داعمي إسرائيل، مثل أمر يكا وألمانيا وفرنسا وكندا وبلجيكا وهولندا والدانمارك، فقد تغيرت مواقف بعض حكوماتها، وصارت تطالب بوقف الحرب فورا، واتخذت بعضها قرارات بوقف تقديم أسلحة لإسرائيل.