في لحظة تاريخية نادرة، وغير مسبوقة، يشكل العالم اليوم تحالفا ضد اقتحام الجيش الإسرائيلي لمدينة رفح، وكان الواجب الوطني والقومي والديني والإنساني يفرض على مثقفينا الاصطفاف مع هذا الرفض العالمي، مثلما يفعل طلاب وأساتذة الجامعات الأمريكية والأوروبية على الأقل، لكننا فوجئنا بفئة ممن يزعمون أنهم دعاة التنوير والتجديد يطلقون في هذا التوقيت الحرج تجمعا مشبوها تحت مسمى (تكوين)، لإثارة البلبلة ولفت الأنظار عما يحدث لإخواننا الفلسطينيين، ومن حسن الحظ أن قوبل تجمعهم باستنكار وتوجس ورفض شعبي عارم، نظرا لما هو معروف عن توجهاتهم الفكرية المنحرفة، وانخراطهم في استراتيجية الكفيل الأمريكي، الذي أنشأ من قبل كيانات مماثلة عديدة لتمزيق أوصالنا، وأغدق عليها المال والنفوذ، وفي النهاية باءت بالفشل.
ولا يقتصر خطر هذا التجمع المشبوه على ثوابت الدين كما يتصور البعض، بل الأهم ـ من وجهة نظري ـ هو خطره على الأمن القومي، وعلى الشخصية المصرية، فالدين محفوظ بكتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، لكن هوية مؤسسي (تكوين)، وصحائف سوابقهم، وتقلبات انتماءاتهم، تنبئ عن حقيقة المهام التى يضطلعون بها من أجل تكوين مواطن مهزوم متصهين، محكوم بالدونية، مزعزع العقيدة، مستسلم وفاقد المروءات، لا يرى في العدو إلا كل حسنة، ولا يرى في المقاومة إلا كل نقيصة ومذمة.
منذ زمن طويل يعمل هؤلاء المؤسسون من خلال المنصات التى يطلون منها على تشكيك الناس في ثوابتهم الوطنية والقومية، مثلما يشككون في الثوابت الدينية، ويهونون من الاحتلال الأجنبي، ومن قداسة المقدسات، ويسخرون من فكرة المقاومة، ويشوهون الرموز التاريخية لأمتنا، ويصرون بدأب عجيب على نسف القيم التي تشبعت بها الشخصية الوطنية المصرية، وهدم الأسس الثقافية والعقلية والنفسية لهذه الشخصية، القائمة على التحدي والصمود في وجه الشدائد، وإحقاق الحقوق، وعدم الاستسلام لظلم الظالمين، والتمسك بأخوة الدم والعروبة والدين، والتضامن مع الأشقاء المستضعفين.
لقد أراد الله سبحانه أن يقف المجتمع الدولي بأكمله اليوم مع غزة، إلى جانب جزء كبير من الرأي العام الإسرائيلي المتعطش إلى صفقة لتبادل الرهائن، ولأول مرة تصدر تصريحات ومواقف خشنة من الرئيس الأمريكي جو بايدن وقادة الاتحاد الأوروبي وبابا الفاتيكان وقضاة محكمة العدل الدولية في مواجهة بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية، بينما رئيس (تكوين) يشن حملة شعواء على المقاومة الفلسطينية الباسلة، ويبشرها بهزيمة منكرة.
لم ينظر رأس النفاق إلى آية الله في صمود المقاومة أمام العدوان الإسرائيلى الأمريكي (الغربي) لأكثر من سبعة أشهر، رغم الحصار وانقطاع الإمدادات عنها، مقابل هرولة حلفاء إسرائيل لإنقاذها بالمال والسلاح والعتاد، والتهديد الدائم بحتمية القضاء على حماس وكل الفصائل الفلسطينية المسلحة، ومرت الأشهر العجاف دون أن تنهزم المقاومة أو تستسلم، بالعكس، انقلبت الأوضاع لصالحها، فها هي أعلام فلسطين ترفرف فى كل ركن من أركان المعمورة، وفي الأمم المتحدة صوتت 143 دولة لمنح فلسطين العضوية الكاملة في المنظمة الدولية، وتلك بعض المكاسب الظاهرة للمقاومة إلى الآن، كان ثمنها باهظا لا شك، لكن يكفي غزة فخرا أنها مازالت تبهر العالم بتضحيات أهلها وقدرات أبطالها، الذين لم يتسرب إليهم اليأس، ولم تلن لهم قناة.
من كان يصدق أن تنتقل الاحتجاجات من مواقع التواصل الاجتماعي إلى شوارع المدن الكبرى في الغرب، ثم إلى الجامعات، ثم تصل أخيرا إلى هوليوود؟ ومن كان يصدق أن تنتشر حملة مقاطعة واسعة ضد عدد كبير من المشاهير في أمريكا، لأنهم ذهبوا إلى حفل في بيت أزياء عالمي، ولم يستغلوا شهرتهم وظهورهم في هذا الحفل لدعم غزة؟
العالم يتغير بسرعة من حولنا، والسردية الفلسطينية يعلو صوتها في جميع البلدان، وذلك نصر لو تعلمون عظيم، نصر يراه القاصي والداني، ويشهد به العدو قبل الصديق، ينما يتبنى فريق منا خطاب نتنياهو الذي يتنكب الطريق، بحثا عن إنجاز يحمي ماء وجهه.
يقول جون كيربي منسق مجلس الأمن القومي الأمريكي إن نتنياهو يبحث عن نصر سريع، لكنه لن يحصل على هذا النصر، واجتياح رفح لن يهزم حماس، بالعكس سيعزز موقفها على طاولة المفاوضات.
وتذكر صحيفة (الإندبندت) البريطانية في افتتاحيتها يوم الأربعاء الماضي أن نتنياهو يعتقد أن أفضل وسيلة لبقائه في السلطة هي تسوية ما تبقى من غزة بالأرض، والادعاء بأن حماس قد هزمت، وإعلان النصر، ومناشدة الناخبين الإسرائيليين للحصول على دعمهم، ولكن مع بقاء الرهائن في أيدي حماس لايمكن أن يحظى بشعبية كبيرة، بل لا يستطيع تجنب الكارثة السياسية التى تهدد مستقبله، لذلك هو يحتاج إلى نصر رمزي، مهما كان باهظ الثمن، وفي نهاية المطاف سينتهي القتال، وسيتوقف هدم غزة، ولو لمجرد أنه لم يعد هناك ما يمكن تدميره، ولن يحصل نتنياهو على النصر الذي يريده.
وهكذا أصبح انتصار نتنياهو مستحيلا، بل تحول إلى كابوس يؤرقه، بسبب ثلاث حقائق تفرض نفسها على المشهد العام:
أولا: ليس هناك ما يضمن أن حماس، أو أي جماعة أخرى، لن تشن هجوما جديدا على إسرائيل، ممائلا لهجوم السابع من أكتوبر، فما زالت الصواريخ تنطلق من غزة، ومن رفح تحديدا، وتصيب العمق الإسرائيلي ومستوطنات غلاف غزة، كمات تنطلق الصواريخ والمسيرات من لبنان على شمال إسرائيل.
ثانيا: العلاقات بين إسرائيل وجيرانها الأقوياء، الضامنين للاستقرارالإقليمي، أصبحت في مهب الريح.
ثالثا: هناك عدد من الرهائن لدى المقاومة، من جنسيات مختلفة، سوف يفقدون حياتهم بسبب الحصار ونقص الإمدادات الدوائية والغذائية، وبسبب القصف الإسرائيلي المتواصل.