نعلم أنّ الصهيوني ماكرٌ ولئيمٌ وماهرٌ جدًّا في صناعةِ كلّ ما من شأنه تأليب العربي على العربي، بل وتحريض العربي على ذاته. ولكن حين يصل الأمر بهذا العدو المنحط إلى ادّعاء أنّه طلب من قوى دولية نافذة الضغط على القاهرة لكي تسمح بفتحِ معبر رفح لإدخال المساعدات إلى غزّة، فإنّ النظام المصري هنا يكون في موقفٍ لا يُحسدُ عليه.
لا يكفي هنا الرد ببيانٍ ركيكٍ ومكرّرٍ من هيئةِ الاستعلامات المصرية، أو تصريحٍ فارغٍ من الموقف الحقيقي يصدر عن وزارة الخارجية، بل يتطلّب الأمر مواقف واضحة، وخطوات عملية تحفظ الكرامة، وتنطلق من معرفةٍ صحيحةٍ وواعيةٍ بحجمِ مصر وطبيعة علاقتها بالشقيق الفلسطيني، وحجمِ ارتباطها بالعدو الصهيوني، الحليف والشريك والصديق بتعبير وزير خارجية الاحتلال، يسرائيل كاتس، والذي نقلت عنه وكالة رويترز أمس إنّ “مهمة تفادي حدوث أزمة إنسانية في غزّة تقع الآن على عاتق أصدقائنا المصريين”. ثم يضيف “على مصر وليس إسرائيل إعادة فتح معبر رفح لإدخال المساعدات إلى قطاع غزّة”، قبل أن يسترسل بالقول إنّه تحدّث مع نظيرَيه في بريطانيا وألمانيا، ديفيد كاميرون وأنالينا بيربوك، “بشأن ضرورة إقناع مصر بإعادة فتح معبر رفح، من أجل السماح باستمرار نقل المساعدات الإنسانية إلى غزّة”.
والحال كذلك، وبعد عربدة جنودِ الاحتلال في معبر رفح، ورفع الأعلام الصهيونية على محور صلاح الدين في منطقةٍ تقع تحت السيادة المصرية، فإنّ الحدّ الأدنى من الموقف المحترم هو فتح معبر رفح لإدخال قوافل الغذاء والعلاج من الجانب المصري إلى قطاع غزّة، ودعوة كلّ الدول الراغبة في غوث الشعب الفلسطيني إلى العبور بمساعداتها إلى غزّة، ووضع المجتمع الدولي أمام مسؤوليته في التصدّي للعدوان.
غير ذلك سيكون إقرارًا بأنّ الرغبة المصرية الرسمية في خنقِ القطاع لا تقلّ عن رغبةِ الاحتلال الصهيوني، حتى لو أقسم مائة من قيادات حركة حماس في الخارج بأنّ القاهرة تلعب دوراً في دعمِ الشعب الفلسطيني… وحتى لو خرجت ألف مظاهرة حاشدة في المحافظات المصرية تهتف باسم القيادة الحكيمة وسياستها في دعمِ فلسطين.
بوضوحٍ أكثر، هذا وقت الأعمال الجادّة وليس الحركات الاستعراضية. وحدها المواقف العملية الجادّة يمكن أن تنسف الأقوال الصهيونية عن “الصديق المصري”، وهناك عشرات من الأشياء أكثر احتراماً وتأثيراً إذا كانت الرغبة في الردّ على الإهانات الإسرائيلية حقيقيةً، ليس من هذه الأشياء الشعبطة في دعوى جنوب أفريقيا ضدّ الاحتلال في محكمة العدل الدولية بعد مرورِ ثلاثة أشهر على نظر الدعوى وإصدارِ قراراتٍ فيها لم يُنفّذ منها قرار واحد. وليس من الخطوات العملية المحترمة للردّ على وضاعة الصهيوني وإهاناته الدعوة إلى تظاهرات اصطناعية، بل أنّها تبتذل التعاطف الشعبي الحقيقي مع الشعب الفلسطيني، والذي ينبع من الضمير الشعبي الفطري والصادق في انتسابه للقضية الفلسطينية باعتبارها قضية كلّ الشعوب العربية، وفي مقدّمتها الشعب المصري الذي في كلّ مرّة يخرج في تظاهرات مؤيّدة لفلسطين يعود منقوصاً من عشرات من أبنائه الذين يجري القبض عليهم وحبسهم، لأنّهم خرجوا يهتفون باسم فلسطين، كما جرى مع الطالبين زياد محمد البسيوني ومازن أحمد دراز، اللذيْن حبستهما نيابة أمن الدولة في اليوم ذاته الذي سيّرت الحكومة تظاهراتها المصنوعة لدعم “السيسي وفلسطين”، علمًا أنّ كلَّ ما فعله الطالبان أنّهما دشّنا حركة “طلاب من أجل فلسطين”.
تستطيع القاهرة أن تحفظ كبرياءها وكرامتها وتلقم الصهيوني حجراً لو أنّها قرّرت وقف تجارة غاز الأرض المحتلة الذي يسرقه الصهيوني ويشتري به سكوتها وتواطؤها، كما يمكنها استدعاء سفيرها من عند العدو، ومطالبة سفيره بمغادرة القاهرة، وقبل ذلك وبعده، تسيير قوافل المساعدات للشعب المحاصر في غزّة دون انتظار الإذن من المعتدي. غير ذلك يُعتبر مجرّد استعراضاتٍ فارغة، أو لحظة غضب عابرة بين صديقين وشريكين، ستمضي، مثل سابقاتها، لحال سبيلها، ولن يأخذها أحد بجديّة.