لم تستمر إسرائيل في حرب لأحد عشر شهرا مثلما استمرت في حربها الحالية على غزة، ولم تصمد جبهة في حرب طويلة مع إسرائيل مثلما صمدت غزة في مواجهة العدوان الحالي، حتى صارت مثالا حيا للصمود والثبات على الحق، وقدمت نموذجا لشعب قل نظيره على وجه الأرض، رجاله ونساؤه وأطفاله يتكلمون مثل الفرسان، ويتلون القرآن مثل العلماء، ويرفعون أياديهم إلى السماء مثل الصديقين، ويغنون مثل الفاتحين، ورغم مشاهد البؤس التي تبدو على وجوههم فإن أرواحهم عالية، ونفوسهم نقية تقية، وقلوبهم قوية كالحديد الصلد، لا تشكو إلا لله، ولا تنتظر مددا إلا منه وحده، لذلك فشلت كل مخططات العدو لسحقهم وإبادتهم وحملهم على الاستسلام.
وبعد أن يئس بنيامين نتنياهو رئيس حكومة إسرائيل طوال شهور الحرب من تحقيق النصر الحاسم الذي وعد به، استدار إلى مخيمات اللاجئين في الضفة المحتلة، لعله ينجز بالعدوان عليها ماعجز عن إنجازه في غزة، وعلى مدى أسبوع كامل نفذ جيش الاحتلال هجمات واقتحامات ومداهمات على مخيمات شمال الضفة، شاركت فيها مروحيات وطائرات حربية ومسيرات ومدرعات وجرافات، لكن هذا الحشد لم يحقق لنتنياهو مايريد، بل زاده يأسا على يأس، إذ اكتشف جنوده أن مد المقاومة وصل إلى المخيمات، وكبدهم خسائر فادحة في الأرواح والمعدات.
ورغم تدمير المنازل وسقوط العديد من الشهداء والجرحى، إلا أن شباب المخيمات صاروا رقما مهما في المعادلة التي تتغير يوما بعد يوم، وهذا ما أصاب المسئولين الإسرائيليين بالهلع، وتنبأ بعضهم بيوم قريب يقوم فيه هؤلاء الشباب بهجوم (إرهابي) مشابه لطوفان الأقصى، وطالب وزير الخارجية يسرائيل كاتس “بالتعامل مع التهديد الماثل في الضفة الغربية بالطريقة نفسها التي يتم التعامل بها مع التهديد في قطاع غزة، وتنفيذ إجلاء مؤقت للسكان”.
لقد أصبحت المقاومة الفلسطينية في كل الأراضي المحتلة فزاعة مخيفة للإسرائيليين، بسبب قدرتها على الإبداع في التصدي والصمود الأسطوري أمام آلة الحرب الجهنمية، وهو ما فاجأ غالبية الخبراء العسكريين والإستراتيجيين في العالم، حتى تساءل بعضهم: “أي شعب هذا الذي يقف في وجه إسرائيل وأمريكا والغرب كله ولا يستسلم؟ أي رجال هؤلاء الذين يقاتلون بشراسة ويفاوضون بشراسة كأنهم قوة عالمية، من يقاتل معهم؟ من يضخ القوة في المدنيين؟
ونقل المفكر المغربي الصديق د.إدريس الكنبوري عن خبير بريطاني وصف غزة تحديدا بأنها “أرض غير طبيعية Unnatural land”، وقال إن ‘’هناك قوة خفية فيها There is a hidden force in Gaza.’’. وفسر الصدبق هذه القوة الخفية بأنها “ملائكة الرحمن” التي تؤيد الصمود الفلسطيني في مواجهة الاستكبار الأوروبي الأمريكي، وهو صمود لا يمكن استيعابه وفق المقاييس البشرية العادية، وإنما فقط بمقياس رب العالمين: “كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين”. البقرة / 249.
وإسرائيل اليوم يأتيها المال والسلاح والمرتزقة بكثرة من كل مكان، لكن هذا لم يفت في عضد المقاومة التي تستمسك بحبل الله المتين، وفي الأسبوع الماضي استقبل الإسرائيليون الرحلة رقم 500 القادمة من وزارة الدفاع الأمريكية، ضمن عملية الإمداد العسكرية الجوية والبحرية التي بدأت منذ بداية الحرب الحالية، وشملت معدات أساسية مثل المركبات المدرعة والأسلحة والذخائر، ومعدات الحماية الشخصية والطبية، وبذلك يكون الجيش الإسرائيلي قد تسلم أكثر من 50 ألف طن من الأسلحة والصواريخ والمعدات العسكرية من الولايات المتحدة وحدها على مدى 11 شهرا عبر 500 رحلة جوية و107 شاحنات بحرية، هذا بالطبع غير شحنات الأسلحة البريطانية والفرنسية والألمانية والإيطالية.
من يصدق أن غزة الصغيرة الفقيرة المحاصرة استطاعت مواجهة كل هذا الحشد العسكري الرهيب وتحملت نتائجه المدمرة على مدى أحد عشر شهرا متواليا؟ من يصدق أن على وجه هذه الأرض أطفالا يخرجون من تحت الأنقاض وهم يشبرون بعلامة النصر، ونساء يرفعن أصواتهن بالحمد والتكبير وهن يرين الموت يخطف أبناءهن وأحبابهن أمام أعينهن؟
بهذا الصمود الأسطوري استطاعت غزة أن تغير المعادلة التي ظنها الإسرائيليون في صالحهم على طول الخط، فبعد أن كان نتنياهو يتعهد باستعادة الأسرى والقضاء على حماس قضاء مبرما وتحقيق النصر المطلق، تقلصت طموحاته وصار يتحدث عن الشروط التي لايمكن التنازل عنها في المفاوضات لوقف الحرب وتدمير قدرات حماس العسكرية، وبعد أن كان يتعهد باستعادة الأسرى أحياء دون مقابل عبر الضغط العسكري، صار اليوم يتحدث عن استعادة جثثهم، بينما يجاهر جنرالاته بأن استعادة الأسرى لن تتحقق عن طريق الحرب، وما لم يدفعوه لاستعادة الأسرى أحياء سوف يدفعون أضعافه لاسترجاعهم أمواتا، مثلما حدث مع حزب الله عام 2008، عندما استرجعوا جثثين فقط مقابل عشرات الأسرى اللبنانيين أحياء بينهم قادة عسكريون.
وبعد أن كانت إسرائيل تقدم نفسها على أنها الذراع التى تدافع عن المصالح الأمريكية الغربية في الشرق الأوسط صارت اليوم تدعو لتشكيل تحالف من أمريكا والغرب وبعض دول المنطقة ليحميها، وبعد أن كانت تتباهى باستراتيجية الردع صارت الآن في موقف الدفاع على كل الجبهات.
ومع استمرار العدوان لأحد عشر شهرا دون انتصار سوى قتل المدنيين، أصيب المجتمع الإسرائيلي بالإحباط، وتزايدت فيه أعداد القتلى والجرحى والمرضى النفسيين والفارين من التجنيد، وأصيب الاقتصاد بانتكاسات متتالية، ولم يعد فيه غير نشاطين بارزين؛ نشاط الجيش ونشاط المتظاهرين، وهو المجتمع الذي اعتاد على الرفاهية ومتع الدنيا.