أتذكر جيدًا ذلك اليوم المُشمس في قريتي الصغيرة أرمنت الوابورات، كنا نحن الأطفال نركض بين النخيل المترامي، نلعب في المساحات الخضراء الزاهية، تتعالى أصواتُنا بالضحكات، حتى جاء الصوت الذي غيّر كل شيء.. صوت الراديو القديم الذي كان دائمًا في ركن من أركان البيت، صوت أعلن عن نصرٍ أشعل قلوب الكبار بفرحةٍ لم نرها من قبل.
كان خبر انتصار أكتوبر في 1973 كالعاصفة التي هبت على قلوبنا.. اجتمع الناس في البيوت والمقاهي، كان الجميع يتحدثون عن “النصر”، وتُرفع الأيادي بالدعاء، وعيون الرجال تلمع بالفخر، بينما كانت دموع الفرح تتسلل من قلوب الأمهات.
مرت الأيام، وبدأت عودة الجند، أولئك الأبطال الذين طال غيابهم.. كنت أرى الجموع تلتف حولهم، كل واحدٍ منهم يحمل حكاية من قلب المعركة.. كان الناس يجلسون في حلقات، ينتظرون، يستمعون لحكايات النصر واللحظات الصعبة التي واجهها هؤلاء الرجال.. كانت كلماتهم عن الشجاعة والصمود تملأ الأجواء بشيء من السحر، وكأننا نستمع إلى أساطير قديمة عن أبطال خالدين.
لم يكن النصر مجرد حدث عسكري، بل كان لحظة ولادة جديدة للوطن.. شعرت بها في نظرات الأمهات اللواتي استقبلن أبناءهن بعد سنوات من القلق والخوف، في ضحكات الأطفال، وفي الأغاني التي كانت تتردد في كل بيت وزاوية..
كان ذلك اليوم علامة فارقة في حياة كل أسرة مصرية، حيث تعلمنا أن النصر ليس فقط في السلاح، بل في الروح التي لا تنكسر، في الإيمان بأن الوطن يستحق التضحية، وفي الفخر الذي يسكن قلوبنا حتى يومنا هذا.