يشهد المشهد الإعلامي الرقمي زخما كبيرا ومنافسات حادة بين الغث من المضامين “التافهة، والثمين من المحتوي النافع ،وبين هذا وذاك تضيع سردية “الحقيقة”،وتظل
العديد من علامات الاستفهام الحائرة لدي “المتلقي” تبحث عن اجابات مقنعة، في هذا السياق غير المتكافئ بين الإعلام التقليدي الذي اعتاده الناس والإعلام البديل الذي يسعي لفرض سطوته وتنفيذ أهدافه ومبتغياته.
ومن آن لآخر يدق خبراء الإعلام الرقمي ناقوس الخطر حول استشراء ظاهرة إقحام “اللامهنيين” في التصدي لمهام التأثير في الرأي العام كبدلاء ل “حراس البوابة الإعلامية” و”القائمين بالاتصال” في وسائل الإعلام التقليدية بمختلف روافدها المقروءة والمسموعة والمرئية والرقمية.
كما يحذر أساتذة الإعلام من أضرار ومخاطر ما يعرف ب “صحافة المواطن” أو “إعلام المواطن الرقمي” عبر منصات ومواقع وسائل التواصل الاجتماعي، أو ما عرف من قبل بوسائل الإعلام الإجتماعية.
هؤلاء ثلة من المتطوعين من غير المؤهلين وأغلبهم من المنتفعين الباحثين عن الشهرة والمال،ولايهمهم بطبيعة الحال دقة المعلومات ومدي مصداقيتها ،بقدر ما يمكن أن تحققه من إعجابات وتعليقات وعائد مادي ،بعيدا عن كافة الإعتبارات الإنسانية والوطنية والأمنية!.
ولا يختلف إثنان علي كونها صحافة “ناقصة” العناصر ،ولا تستند لأسس علمية وفقا لمحددات العمل الإعلامي، لكن واقع الأمر يؤكد أنها تسهم في صناعة الرأي العام ، وتوجيهه بصورة أو بأخري ، وأحيانا في تخدير العقول والسيطرة عليها.
كما يستغلها شياطين العصر من بعض المغرضين وجماعات المصالح في تزييف الوعي عبر رسائل مركزة ومتتالية ومتنوعة للتضليل الإعلامي وإجتزاء الحقيقة دون ادني اعتبارات للمسؤولية الاجتماعية والقوانين واللوائح المنظمة لمختلف لوسائل الإعلام العامة والخاصة.
ومن التساؤلات التي تطرح نفسها.. كيف يساهم صنّاع المحتوى الرقمي في توجيه الرأي العام عن طريق معلومات مضللة؟!.
تشير تقرير راصدة إلي
أن صناع المحتوى اليوم من بين العناصر الأكثر تأثيرا في الفضاء الرقمي العام، بفضل قدرتهم على الوصول إلى جماهير واسعة وبناء علاقات شخصية مع متابعيهم، ويُنظر إلى بعض المؤثرين كمصادر معلومات موثوقة، إلّا أن هذا التأثير المتنامي ترافقه تحديات كبيرة، أبرزها انتشار المعلومات المضللة وغياب التحقق منها.
ووفقا لمعطيات لواقع ،فصناع المحتوى ،يقدمون دورا مزدوجا، فمن جهة، يمكنهم أن يكونوا أدوات للتوعية والتربية والتعليم، والتنشئة السوية،ومن جهة أخرى، قد يتحولون إلى منصات لنشر الأخبار الزائفة والمضللة، سواء كان ذلك عن قصد أو نتيجة افتقارهم إلى المهارات اللازمة للتحقق من حقيقة الأخبار وانتقاء المعلومات وتحليلها، مما يجعلهم أحيانا أدوات لنشر التضليل والشائعات والإضرار بمصالح الوطن وإختراق خصوصية المواطنين.
وفي هذا السياق كشفت دراسات حديثة أن أكثر من نصف صانعي المحتوى الرقمي يفتقرون إلى آليات فعالة للتحقق من المعلومات، مع اعتمادهم على معايير سطحية، مثل عدد الإعجابات والمشاركات لتقييم مصداقية الأخبار، مما يسهم في تعزيز دورة التضليل وزيادة انتشاره!.
كما كشفت دراسة أجرتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، شملت 500 مؤثر من 45 دولة، عن فجوات خطيرة في ممارسات التحقق لدى صانعي المحتوى الرقمي.
وأظهرت الدراسة أن 63% من المؤثرين يفتقرون إلى ممارسات أساسية للتحقق من المعلومات، على الرغم من تأثيرهم الكبير على النقاش العام.
وأوضحت أن العديد منهم يعتمدون على مؤشرات سطحية، مثل التفاعل الاجتماعي (الإعجابات والمشاركات)، بدلًا من الرجوع إلى المصادر الموثوقة.
كما سلّطت الدراسة الضوء على أنماط تقييم صانعي المحتوى لمصداقية المعلومات، إذ يعتمد 42 % منهم على مقاييس ومعايير مواقع التواصل كمؤشرات رئيسية للمصداقية، بينما يشارك 21 % المحتوى، بناءً على “الثقة في الأصدقاء” الذين قاموا بمشاركته مسبقا!.
وأوضحت الدراسة كذلك أن وسائل الإعلام التقليدية، على الرغم من خبرتها، تحتل مرتبة متدنية كمصدر للتحقق، إذ يستعين بها فقط 36.9 % من صانعي المحتوى الرقمي.
وأشارت الدراسة إلى تحدٍ آخر في المشهد الرقمي، حيث يعمل ما يقرب من 60% من صانعي المحتوى دون فهم واضح للأطر التنظيمية الأساسية والمعايير الدولية، مما يجعلهم عرضة للمخاطر القانونية والتحرش عبر الإنترنت.
كما خلصت دراسات أخري إلى أن ثلثي صانعي المحتوى الرقمي ينشرون معلومات غير موثقة لملايين المتابعين.
وتأتي هذه النتائج في وقت حاسم، حيث أصبح المؤثرون على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المنصات مصادر رئيسية للأخبار والمعلومات الثقافية للجمهور العالمي.
ومن جهتها، قالت المديرة العامة لليونسكو، “أودري أزولاي” تعليقا على هذه الظاهرة:إن صانعي المحتوى الرقمي اكتسبوا مكانة مهمة في النظام المعلوماتي، حيث يتفاعلون مع ملايين الأشخاص عبر أخبار ثقافية أو اجتماعية أو سياسية. ومع ذلك، يواجه الكثيرون صعوبات في مواجهة المعلومات المضللة وخطاب الكراهية عبر الإنترنت، مما يدفعهم للمطالبة بمزيد من التدريب.
واستجابة لهذه التحديات، فقد تعاونت “اليونسكو” مع مركز “نايت” للصحافة في الولايات المتحدة لتطوير أول دورة تدريبية عالمية لصانعي المحتوى الرقمي.
وقد امتد البرنامج لأربعة أسابيع، استقطب أكثر من تسعة آلاف مشارك من 160 دولة، وقدم تدريبا شاملًا على التحقق من المصادر، ومنهجيات التحقق، والتعاون مع وسائل الإعلام التقليدية.
ولاشك أنها خطوة مهمة نحو إقرار فكرة تدريب واستيعاب وتقنين ظاهرة “إعلام المواطن”،وهو ما نتطلع إليه الآن علي المستوي المحلي والعربي لمعالجة كافة القضايا التي تهم العرب وتقديم “سردية الأحداث” للعالم بصورة حقيقية وغير مشوهة،وتوظيف بعض قنوات المؤثرين لدعم الدور الإعلامي الغائب في بعض مناطق التي تتعرض للتضييق والمصادرة، كما الحال في مختلف بقاع فلسطين ،وغيرها.
وما يزال العالم يواجه تحديات كبيرا ومعاناة نتيجة لغياب التنظيم القانوني لمحتوى الرقمي ،وللقوانين التي تحكم المحتوى الرقمي. ففي العديد من الدول، لا تزال التشريعات المتعلقة بهذا المجال غير مكتملة أو تفتقر إلى التفاصيل التي تنظم نشر المعلومات أو تحاسب صانعي المحتوى عند نشرهم معلومات مضللة.
وفي كثير من المحافل يُستغل هذا الفراغ القانوني في الترويج لأجندات سياسية، ونشر خطاب الكراهية، واستغلال المنصات الرقمية لتحقيق مكاسب شخصية على حساب المصداقية والمسؤولية.
وفي ظل غياب قوانين واضحة، تقتصر محاولات التنظيم غالبا على سياسات المنصات الرقمية الكبرى، التي تُواجه اتهامات متكررة باتباع معايير مزدوجة أو عدم الشفافية في تطبيق قواعدها.
ما يضع بعض الحكومات في مأزق، إذ تجد صعوبة في تقييد المحتوى غير الأخلاقي أو المضلل دون المساس بحرية التعبير.
في المقابل، تواجه المنصات الرقمية ضغوطا متزايدة لتنظيم محتواها دون تدخل حكومي مباشر، وهو ما يُبرز الحاجة الملحّة إلى تشريعات دولية واضحة تحقق التوازن بين حماية حرية التعبير وضمان المسؤولية الرقمية، علاوة علي توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي للكشف عن المحتوى المضلل، أو ما يتعارض مع القيم الأخلاقية والإنسانية.
وفي تقديري أن “صناعة المحتوي” سواء قدمه المهنيون المتخصصون أو بعض المتطوعين يجب أن يتحلي بالمسؤولية الوطنية والاجتماعية ،وسط هذه الأجواء الملبدة بالغيوم والأحداث والمتغيرات الإقليمية ،حفاظا علي استقرار وطننا الغالي .
ولم يعد من اللائق الصمت وتجاهل مئات الرسائل السلبية التي يقدمها هؤلاء ،ويجب التصدي لها وما تقدمه من معلومات مغلوطة وشائعات وترويج لأكاذيب تخدم في المقام الأول اعداء الوطن وتمهد الأذهان لتنفيذ مشروعات تقسيم وتفتيت الكيانات العربية ودعم الفوضي الخلاقة.