في حضرة الصمت، حيث يختبئ الضجيج بين حنايا الأرواح، ينشأ الخرس كأعظم لغز في الوجود.
إنه الصمت الذي لا يعني الغياب، بل حضورا طاغيا، حضورا يعبر عن أشياء تعجز عنها أبلغ الكلمات، فتغدو الحروف مجرد ظلال باهتة لما يحمله القلب من معان دفينة.
هنا يصبح الخرس سيد المشاعر، ينطق بحديثٍ عميق لا صوت له، لكنه يزلزل أركان النفوس، يشعل العقول، ويبعثر أرواحنا في بحر من التأمل.
إنه صمت يكتب الروايات دون قلم، يرسم اللوحات دون ألوان، ويغني ألحانا لا يسمعها إلا من أرهقتهم الأيام وأثقلتهم الأحلام.
هو ذاك الصمت الذي لا يهرب من التعبير، بل يتحدى اللغة ويجبرها على الخضوع لسطوته.
إنه الصمت الذي يختبئ في العيون، يرتجف في رعشة الأيدي، وينبض في دقات القلب المتسارعة، كاشفا عن أوجاع تعجز الكلمات عن وصفها.
وحين يصمت الخرس، لا يعني ذلك الهدوء، بل بداية معركة، معركة بين الشعور والعجز، بين الرغبة في البوح والخوف من الانكسار.
إنه اللحظة التي تتوقف فيها الكلمات على حافة الهاوية، مترددة بين أن تخرج وتواجه الحياة أو أن تبقى أسيرة الصمت.
ففي صمت الخرس موسيقى تحاكي الأرواح، ألحانها حزينة، أنغامها مبهجة، ونهايتها دائما مجهولة.
إنها لغة الصمت حين يتحول إلى قصيدةٍ منسية، إلى لوحة من الحزن، إلى حكاية خالدة ترويها الأرواح وتتناقلها القلوب جيلا بعد جيل.