ثمة كثير من القواسم المشتركة التي قد ميزت المجتمع العربي قديماً، مؤمناً وكافراً تمييزاً كبيراً، فعلى سبيل الجملة، برزت مواطن الفصاحة والشهامة والسباحة والرماية والفروسية، وكان الذي يمتلك هذه الصفات جمعاً يعد عند العرب كاملاً، وعلى سبيل الدقة، كانت الفصاحة أبرز المواطن الجمالية وأكثرها حضوراً وتأثيراً، حتى أن الذي كان يفتقر لشطر الفصاحة، لا يعتد به في طقوس العرب شريفاً ولا رفيعاً، فإذا أقبل عصر صدر الإسلام، وأشرقت نفحاته، ازدادت الفصاحة توهجاً وضياءً، بعد أن كملها وجملها قرآن رب الأرض والسماء، لتنزل في أعظم صورها على سيد الأنبياء، فيتلقفها منه الصحابة الأتقياء، ثم إن الذين لم يدخلوا في الإسلام إلا بعد عناء، كانوا بالفصاحة شعراء وخطباء، وكذلك نظراء في الحجج والمراء، وإن على رأسهم سهيل بن عمرو، الذي كان مضرب كل مثل عند العرب في فصاحة اللسان وقوة البيان، حتى لقب بخطيب قريش، لقد كان سهيلاً صاحب حجة كلامية وإن كانت باطلة، إلا أنها كانت ماكرة عند أصحاب القلوب الكافرة، فظلوا بها طويلاً في مجابهة الدعوة المحمدية الساطعة، كان سهيل بن عمرو يمتلك أخطر أدوات الحرب النفسية ضد العدو حقاً، إنها فصاحة التعبير وبلاغة التبرير وقوة التأثير، فهذا يوم الحديبية، يقف فيه سهيل بن عمرو نائباً عن قريش نداً وضداً لعلي بن أبي طالب نائب المسلمين، وكلاهما خطيباً مفوهاً متألقاً ينطق بالحكمة ولا يعرف إلا قولاً بليغاً، وقد أوقعت هذه الصفة الحميدة التي كان يمتلكها سهيل بن عمرو في نفس رسول الله حباً وتقديراً، فما كان صلى الله عليه وسلم يعامله أيما تعددت المواقف بينهما إلا برفق ولطف، وكأنه صلى الله عليه وسلم قد استلهم البشرى من الوحي في إسلام سهيل بن عمرو، ففي يوم بدر لما أسر سهيل بن عمرو، قال عمر بن الخطاب لرسول الله، يا رسول الله دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو حتى لا يقوم عليك خطيباً بعد اليوم، فأجابه رسول الله لا أمثل بأحد فيمثل الله بي وإن كنت نبياً، ثم أدنى عمر منه وقال يا عمر، لعل سهيلاً يقف غداً موقفاً يسرك، وجاء ذلك اليوم، عندما عزم أقوام من مكة الردة بعد وفاة رسول الله، فوقف فيهم سهيل خطيباً، يا معشر قريش : لا تكونوا آخر من أسلم وأول من ارتد، والله إن هذا الدين ليمتدن امتداد الشمس والقمر من طلوعهما إلى غروبهما في ظلام الليل، ما أروع سهيل بن عمرو خطيباً مفوهاً بعباءة الإسلام مفخراً، فعند فتح مكة كان من القلائل الذين لم يسلموا، ولما جاءه ابنه عبدالله لكي يدخله في الإسلام، أبى خائفاً إلا أن يؤمنه رسول الله، فذهب عبدالله غير بعيد إلى رسول الله ليطلب منه أن يؤمن أباه، فقال له النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، هو آمن بأمان الله، ثم استطرد النبي قائلاً لمن حوله من المسلمين، من لقى منكم سهيلاً فلا يشد النظر إليه، فلعمرى إن سهيلاً له عقل وشرف وما مثل سهيل جهل الإسلام، فيخرج سهيل بن عمرو، ويطلق رسول الله قولته المجيدة على رؤوس أشهاد مكة ومن حولها، يا معشر قريش، ما تظنون إنى فاعل بكم ؟ فيجيبه سهيل بن عمرو نظن خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، فيجيبه رسول الله، اذهبوا فأنتم الطلقاء، وبين دخول سهيل بن عمرو إلى الإسلام ومن بعده دخول صفوان بن أمية إلى الإسلام، كانت دبلوماسية الحكمة والموعظة من النبي صلى الله عليه وسلم هي القاسم المشترك بينهما وكذا قول الفصل فيهما، صلى الله على أعظم نبي طلعت عليه الشمس ورضي الله عن سهيل بن عمرو والصحابة إلى يوم الحشر
